مشروع ذاكرة بقلم ماهر أبو شقرا
كاتب وباحث – منظم سياسي لبناني
كانت انتفاضة 17 تشرين 2019 نقطة تحول هامة في لبنان. فعلى مستوى المشهد السياسي العام، نجحت القوى المناهضة للسلطة الطائفية في فرض حضورٍ سياسي وشعبي جدّي خارج جناحي السلطة الطائفية. ولقد تمّت ترجمة هذا الحضور في نتائج الانتخابات النيابية 2022 حيث تحصّلت لوائح قوى المعارضة الشعبية على عدد معتبر من النواب.
أمّا على مستوى الصراع الاجتماعي بمواجهة الطبقة الحاكمة فلقد نجحت انتفاضة تشرين في تكريس كتلة شعبية لا يستهان بها تتقاطع على شعارات محاربة الفساد والإصلاح السياسي والقضائي، وعلى إنهاء نموذج الزبائنية الذي تقبض من خلاله الطبقة الحاكمة على المجتمع. لم تكن انتفاضة تشرين انتفاضة عفوية؛ إنّما هي كانت حقبة مفصلية ضمن سلسلة مراحل كانت قد أسهمت في تشكيل الحراك الشعبي وتكريسه كظاهرة سياسية تعيش نموّاً وتطوّراً مستمرّاً منذ 2011 وحتى اليوم.
“كلّن يعني كلّن” ؟
يختلف كثيرون على صوابية شعار “كلّن يعني كلّن”. والأكيد أنّ هذا الشعار قد لا يكون صالحاً في كلّ زمان ومكان، فلكلّ مرحلة ظروفها التاريخية. غير أنّ الأكيد هو أن هذا الشعار هو الركن الأساسي الذي أنبنى عليه الخطاب السياسي للحراك الشعبي منذ انطلق في العام 2011. في آذار 2011 أطلقنا شعار “كلّن يعني كلّن” كتعبير عن الرفض الحاسم لاستثناء الأمين العام لحزب الله من رموز النظام الذي كنا ندعو لإسقاطه.
وتطوّر استخدام هذا الشعار في المراحل اللاحقة، لينتهي في 2022 كأداة لقطع الطريق على فلول النظام، أي على القوى السياسية الطائفية التي تركت السلطة بهدف للاستثمار في الحراك الشعبي طمعاً بتبييض صفحتها وبتحقيق مكاسب انتخابية من خلال ركوب موجة الانتفاضة الشعبية. ولولا هذا لنجحت أحزاب منظّمة، مثل الكتائب اللبنانية وغيرها، من حصد عدد من المقاعد الإضافية، لكن ليس على حساب قوى السلطة الأخرى بل على حساب لوائح الحراك الشعبي وقوى التغيير. فالذي ينتصر دائماً ليس الأكثر عدداً بل الأكثر تنظيماً. لقد كان الهاجس لدينا دائماً، وما زال، حماية تجربتنا والمراكمة عليها.
كان شعار “كلّن يعني كلّن” مهمّاً جداً على الدوام. غير أنّ هذا الشعار يفسح في المجال أمام الانقسامات الشعبوية، أي انقسامات وفق مبدأ “نحن وهُم”. فهل هذا هو المطلوب اليوم؟ الجواب هو كلا. فالمطلوب اليوم هو أولاً الفرز بناء على الخيارات السياسية، وثانياً الكثير من التنظيم. فإذن، هل المطلوب اليوم هو التخلي تماماً عن شعار “كلّن يعني كلّن”؟ الجواب هو أيضاً كلاً. إنّما المطلوب تحييده ريثما يكون هناك حاجة إليه. غنّ قوى السلطة الطائفية قوية جداً وماكرة جدّاً، وفي بعض الأحيان يكون النقاء الثوريّ هو الخيار الوحيد.
17 تشرين انتفاضة لم نتمكّن من تحويلها إلى ثورة
في نظرة واقعية وموضوعية، إن 17 تشرين كانت انتفاضة شعبية احتجاجية. بدأت مساء 17 تشرين1 احتجاجاً على الضرائب الجائرة التي اقترحتها حكومة السلطة الطائفية برئاسة سعد الحريري، وانتهت باستقالة الحكومة يوم الثلاثاء 29 تشرين1 2019. أمّا ما قبل تاريخ 17 تشرين1 فكان الكثير من التعبئة السياسية التي قمنا بها بعد انتخابات 2018. وامّا ما بعد 29 تشرين1 فكان استمرار للنضال الشعبي والسياسي بمواجهة السلطة في عدّة محطّات كان أهمّها محطّتان: 8 آب 2020 في يوم غضب شعبي حاولنا في نهايته إعلان حكومة انتقالية مستقلّة ولم ننجح نتيجة تردّد وضعف القوى السياسية المشاركة في الحراك.
وفي انتخابات 2022 عندما حاولنا تهيئة الظروف لإيصال 30 نائباً إلى المجلس النيابي على الأقلّ، فنجحنا بإيصال 13 نائباً ونائبة. كانت ظروف جائحة كورونا والانهيار الاقتصادي وتفجير مرفأ بيروت وقمع انتفاضة تشرين قد أرهقت المجتمع اللبناني ونالت منه. وترافق كلّ ذلك مع انهيار نقدي وتردي في الأوضاع المعيشية مع وصول غالبية المجتمع إلى ما دون خط الفقر، كما وهاجر وجزء كبير بحثاً عن سبل الحياة. وبعكس ما قد يعتقد كثيرون، عندما يضعف المجتمع فإنّه لا يأكل حكّامه، بل يزيد استعداده لتقديم التنازلات السياسية مقابل الكفاف. ومن مجتمع انتفاضة تشرين وحدهم الأكثر قدرة على الصمود مالياً قرّروا الانتقام في صناديق الاقتراع من سلطة مجرمة وظالمة، فأوصلوا 13 نائباً تغييرياً.
لقد أسمينا انتفاضة 17 تشرين ثورة، وهو إسم يليق بها نظراً لدورها التاريخي الكبير. غير أنّه لا يمكننا أن نصنّفها اليوم كثورة، وذلك لعدة اعتبارات. أولاً غياب المشروع الموحد للاستيلاء على السلطة، وثانياً عدم النجاح في تبديل كفة ميزان القوى الشعبي لصالح قوى الانتفاضة بشكل حاسم وثابت. كانت أكثرية اللبنانيين مؤيدة لمطالب الحراك المعيشية، وشعارات محاربة الفساد، لا بل وحتى مطلب تشكيل حكومة مستقلة، غير أنها لم تكن مستعدّة للمساهمة، أو لدعم أي فعل يسهم، في إحداث تغيير ثوري جذري وشامل.
مطالب واضحة ومحدّدة
لم أكن يوماً إلا مريداً للتغيير الجذري والشامل. وإني أرى المشكلة في لبنان هي عطب بنيوي في النظام السياسي ( Poltical System ) وليس فقط في المنظومة الحاكمة ( وهو تعبير استخدم لأول مرة في 2018 كمحاولة للترجمة الحرفية لكلمة Regime ). غير أنني أعتبر أنّ أحد عوامل نجاح انتفاضة تشرين هو أنّه كانت تحمل شعارات ومطالب واضحة ومحدّدة، على عكس المحاولات السابقة حيث غلبت الشعارات العامة. بدأنا بالمطالبة بإلغاء الضرائب غير العادلة في اليوم الأول. ثم طالبنا باستقالة الحكومة وتشكيل حكومة إنقاذ مستقلة، من خارج الطبقة الحاكمة، وذات صلاحيات تشريعية لكي تتمكن من الإنقاذ السريع للبلاد من الانهيار – وهو انهيار توقّعناه حتى منذ ما قبل بدء الانتفاضة.
لقد أصبح الانهيار اليوم حقيقة صارخة. وقد تفاقم هذا الانهيار وازدادت رقعته وشموله مع تزامن الأزمات. من الانهيار المالي والنقدي، إلى جائحة كورونا وتداعياتها، إلى تفجير 4 آب الذي كان لحظة تكشّفت فيها جميع مشاكل النظام اللبناني من فساد وإهمال وتسلّح غير شرعي وضياع المساءلة والمحاسبة في غياهب الطائفية السياسية والتدخلات السياسية في القضاء، إلى عقم المؤسسات الرسمية والسياسية الدستورية ونسف الاستحقاقات، وصولاً إلى ويلات حربٍ محتملة في دولة فاقدة للسيادة على قرار الحرب والسّلم أمام عدو لا يخفي نواياه العدوانية وطموحاته التوسعية. أمام كلّ ذلك فإن المطلوب اليوم هو أكثر وأبعد وأصعب من انتفاضة احتجاجية. هناك مهام ملقاة على عاتقنا، نحن الذين شاركنا ونظّمنا وخططنا لجميع فعاليات انتفاضة تشرين والحراك الشعبي، مهام ومسؤوليات لا يمكننا أن نتخلّف عنها.
أمّا اليوم، فما العمل ؟
لا مكان للعفوية بعد اليوم، بل عملٌ سياسي جدّي مبني على خيارات سياسية واضحة واستراتيجية هادفة. ولا بدّ أن يسبق هذا الأمر مسألتان أساسيتان. الأولى هي الفرز السياسي بناء على خيارات وبرامج واضحة وواقعية وبعيدة عن العموميات. أما الثانية فهي التنظيم. أي الانتقال من مرحلة الفردانية والمجموعاتية إلى مرحلة التكتلات السياسية الجماهيرية. إنّ أربع أو خمس تكتلات جدية وفاعلة خير من عشرات المجموعات الصغير التي يقوم عملها السياسي على العفوية والانفعال وردّ الفعل بدلاً من الفعل. تكتّلات تتقاطع أحياناً، وتتباين أحياناً، وفق مبدأ : في السير نمشي كلّ على حدة، وفي المواجهة مع السلطة الطائفية والطبقة الحاكمة نضرب معاً.