بقلم رائد عماد الترك
رئيس التجمع الدولي للاستشارات – باحث في الشؤون الاجتماعية السياسية
وضعت حرب أوكرانيا الاقتصاد العالمي على مفترق طرق وعبّدت حرب غزة الطريق نحو نظام عالم جديد. كان لحرب أوكرانيا انعكاسات كبيرة على الاقتصاد العالمي اذ انها شكلّت ضغطاً على الإمدادات الغذائية وفاقمت أزمة الطاقة وزادت من معدلات التضخم المصحوبة بركود اقتصادي شهدنا خلالها تبادلات تجارية بعملات غير الدولار الأمريكي وزيادة بنسب احتياطات الذهب والقمح والنفط على حساب الدولار مما هدد نظام العولمة القائم.
وضعت هذه الحرب أيضا العالم أمام ثلاثة خيارات استراتيجية لاقتصاداتها، توزعت ما بين اقتصاد مبني على الصناعة، والثاني مبني على الموارد والثالث مبني على السوق . فاقمت هذه الحرب من ندرة الموارد التي تقاطعت مع عدم زيادة الإنتاج العالمي، مما تمخّض عنها قوة اقتصاد الموارد إن كان لناحية إنتاجها ومردودها (موارد الطاقة كالغاز والبترول في روسيا – وايران والسعودية) او لناحية ممراتها اللوجستية ( تركيا – هند – مصر)، وبهذا أصبح اقتصاد الموارد يشكّل الحد الفاصل للتحالفات الدولية ما بين المصنع (الصين) والسوق (أمريكا) فاتحاً المجالات أمامها لخيارات متعددة يُحدد بموجبها معايير وقواعد النظام العالمي المستجد.
اما غزة فأنها تشكلّ موقعاً استراتيجيا ًيُحدِد قواعد اللعبة الاقتصادية الجديدة في العالم وذلك لأسباب عدة أهمها :
أولاً، مساحتها البحرية التي تعتبر من الأكبر في الكيان الصهيوني ومصدر أساسي لموارد الغاز الطبيعي المستخرج من البحر.
ثانياً، مميزاتها المرتبطة بموقعها الجغرافي التي تعزز من خلاله أمن خليج العقبة إيلات.
ثالثاً، حدودها مع مصر التي تلعب دوراً مِحْوَرياً في حركة التجارة الدولية عبر قناة السويس.
غزة أيضاً جبهة بجبهتين حيث ان الهيئة السياسية لدى حماس تُحتضن من قبل جبهة قطر – تركيا، وتتمركز قواعدها العسكرية في محور المقاومة الذي يصب بجبهة ايران سوريا وحزب الله.
وبهذا يتخذ شرق البحر الأبيض المتوسط طابعاً استراتيجيا تتنازع عليه القوى الدولية من خلال مشروعين اثنين :
- الأول مشروع “الممر الاقتصادي الهندي” الذي يبدأ بالهند ويمر بالإمارات والسعودية والأردن و مرفأ حيفا باتجاه أوروبا،
- الثاني مشروع “الحزام والطريق” الذي يعبر قناة السويس وتركيا وبيروت وإيطاليا مرورا بإيران وروسيا.
ففي حين يدفع اللون الأحمر غزة الى جنوبها ينظر الأمريكان كما الصينيون الى اللون الأخضر لرسم معالم النظام الجديد القائم على قضم الأسواق وتأمين ممرات آمنة لحركة التجارة العالمية الجديدة. أمام هذان الخياران يتصارع العالم اليوم والحسابات لا تنفك تدور في فلك الفائدة والاستفادة لتتغدى من دماء أطفال ومدنيين أبرياء يتوقون الى التحرر والتحرير.
يضع مشروع “الحزام والطريق” الصين في الصدارة اذ يجعلها المستفيد الاقتصادي الأكبر منه ويدعم سيادتها الاقتصادية كونه يمر بالبلدان الذي لا يتحكم فيها الدولار بشكل قطعي، بينما المستفيد الأكبر من “ممر الاقتصاد الهندي” فهي أمريكا ما يقيّد مسعى الصين للتحرر النقدي ويؤمن الاستفادة الاقتصادية والمردود المالي من التبادلات التجارية للبلدان الصديقة للمحور الأميركي كالسعودية وإسرائيل والهند.
من جهة أخرى تدفع كلفة الوضع الاقتصادي الذي يشهده العالم كل المستفيدين الى تعجيل الوقت لتأمين ممرات آمنه لحركاتهم التجارية عبر العالم واحتساب مصالحهم بطرق متنوعة الاشكال.
تتصاعد هذه الصراعات وتزداد حدتها بتصاعد المصالح الاقتصادية للدول على مستوى عالمي : فمشروع “الحزام والطريق” يعزز موقع الاقتصادي لدول سيانا وروسيا وتركيا ومصر وقطر وإيران كونهم يسيطرون على كل من بحر الأسود (تركيا – روسيا) وبحر الأبيض المتوسط (تركيا – مصر – اسبانيا) والبحر الأحمر (مصر واليمن ) ومضيق هرمز (إيران) ويؤمن لهم دوراً كممرات لوجستية عالمية مما يزيد من تموضعهم المستقبلي على خريطة الاقتصاد العالمي ويضعف إمكانية تضررهم من مشروع ممر الاقتصاد الهندي الذي يأتي على حساب قناة السويس وإيران وتركيا وروسيا. لهذه الأسباب اشعلت حرب غزة لصالح الممر الهندي، ولهذا رفض الرئيس المصري المُتَضرر من هذا المشروع، فتح ممر رفح وانتقال واستيطان الفلسطينيين في سيناء مصرحاً إذا ما فشل صمود الغزاويين يُمكن ترحيلهم الى صحراء النقب كمحاولة منه لتفشيل الممر اللوجستي من الأردن الى مرفأ حيفا (وسعته الصين في عام 2015 ) وضرب المشروع الصناعي لبوابة الأردن (2019) ، وهو مشروع صناعي مشترك مع إسرائيل.
أما الممر الاقتصادي الهندي فيدعم الهند والامارات والسعودية والأردن وإسرائيل كونهم يسيطرون بدورهم على الخليج الهندي (الهند) والبحر العربي (سلطنة عمان والهند ) وشرق البحر الأبيض المتوسط (إسرائيل اذا سقطت غزة) والتي ستلعب فيه دولتي الخليج العربي (سعودية – امارات) والأردن ممرات برية مستقبلية على حساب الممرات البحرية الطبيعية الأخرى. يرسي ولاء هذه الدول وقُربها من الولايات المتحدة أمن هذه الممرات كما شهد عليها الأحداث من تغاضي أميركا عن استفادتهم التجارية من العقوبات التي فرضت على إيران وروسيا لناحية تجارة المواد النفطية والتحكم بأسعارها العالمية. هذا إضافة الى التموضع الاستراتيجي للهند في البريكس وخلافها العميق مع الصين الذي يصب أيضا لصالح أمريكا.
الازمة الاقتصادية التي يواجهها العالم حالياً تعزز القوة السياسية للدول القائمة على الاقتصاد المبني على الموارد وتدفعها لاتخاذ مواقف ازدواجية ومسارات رمادية ومحايدة تفاضلية تحفظ من خلالها قدرتها على التحكم والسيطرة والتأثير في صنع القرار العالمي، ومثالا ما أعرب عنه وزير خارجية السعودية خلال لقائه الوزير الإيراني في الصين قائلا ” نحن مسلمون يحق لنا تعدد الزوجات ” الا ان أمريكا تبقى زوجته الأولى مما يرسخ الحياد التفاضلي في العلافة الأمريكية الصينية مع السعودية .
انعكس هذا الازدواج /الحياد التفاضلي أيضا في التموضع الروسي التركي في حرب أوكرانيا تجاه الأمريكان ونفوذها في كل من افريقيا وأوروبا وكذلك في الازدواجية التفاضلية للموقف الإيراني في صفقة تبادل الاسرى. هذا الحياد التفاضلي سيدفع العالم الى مسارين : إما البقاء على” توازن القوى” القائم حالياً والذي سيعززه مشروع “الممر الاقتصادي الهندي” كونه يبقى “المصنع” في “خدمة السوق”، ويبقي المسعى الصيني للتحرر النقدي قائماً مما قد يدعو الى نقل الصراع الى أماكن أخرى كتايوان أو البحر الصيني، أو يتجه نحو” توازن الرعب” والذي سيفرضه مشروع ” الحزام والطريق” كونه سيوزع مركز القوة على اقطاب متعددة التوجهات لإدارة سلامة وامن الممرات اللوجستية وانكسار القطب الواحد.
في خضم هذه الصراعات يشكل لبنان حاضنة استيعابية وانتشارية يمتاز بها عن الكيان الصهيوني الإسرائيلي لناحية عمق أحواض مرفأه المهدم التي تسمح له باستقبال حاويات وبواخر ضخمة وقدرته على احتواء -بالوكالة او بالأصالة -المصالح المتناقضة للقوى المتصارعة والتعامل مع جميع هذه الاختلافات.
الارتداد الاقتصادي والمؤسساتي وحالياً الاهتزازات الأمنية من كل جانب لم تجر لبنان الى الحرب حتى الان ، فلو قام حزب الله بخوض الحرب منذ البدء في جنوب لبنان لما تصاعدت الانقسامات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي بل لكانت وحدت الأحزاب والجماهير للاصطفاف حول اليمين المتطرف في حربه الغاشمة، ولما كانت تصاعدت وتيرة الرأي العام والوعي المجتمعي للإجرام الإسرائيلي والحشود الرافضة له في العالم أجمع، ولما كانت ظهرت التوجهات الاستراتيجية والمصالح الاقتصادية للدول من هذه الحرب. من جهة أخرى، يتمتع حزب الله بقدرة عسكرية على الحدود قرب مرفأ حيفا يستطيع من خلالها افشال مشروع الممر الهندي ؛ ولهذا السبب لن ينجر الحزب برأيي الى صراعات تستنزفه دون الحفاظ على “توازن الردع” ومصالحه الاستراتيجية التي تصب بتوجهات المحور الذي ينتمي إليه.
خيارات الدم في غزة وعلى أرضها هزت بصمودها الكيان الإسرائيلي وسرّعت من سقوط التطرف اليميني ودوره الاستراتيجي للنزاع الشرق الاوسطي الذي اُنشأ بمؤتمر كامبل سنة 1907. بسقوط نتانياهو وعقيدة حزبه سيتمخض النظام العالمي الجديد المرتكز على أساس اقتصادي لا عقائدي وسيتم تقويض شرعة الأمم المتحدة لصالح مجموعة العشرين.