بقلم د. ميشال الشماعي
على وقع أزيز الرصاص الذي ملأ مختلف أجواء المناطق اللبنانيّة، ألقى نصرالله كلمته المرتقبة والمتوقّعة.
أمّا بتوصيف الكلمة التي ألقاها نصرالله اليوم الجمعة 3 تشرين الأول 2023 على خلفيّة أحداث غزّة تكريمًا للشهداء الذين سقطوا من حزبه ومن السرايا التابعة له ومن الفصائل العاملة تحت كنفه فهي جاءت لسببين اثنين لا ثالث لهما :
أوّلاً : تمّ توجيه هذا الكلمة لمخاطبة بيئته الحاضنة، وليس المكوّن الشيعي اللبناني. فهذه البيئة التي تمّ شحنها إيديولوجيًّا طوال أربعة عقود حتّى باتت معبّأة لتحقيق ما تصبو إليه، أي الموت في محاربة إسرائيل، وذلك لتنال حظوة الاستشهاد، بعد عمليّة الغسل الإيديولوجي التي مارستها منظمة حزب الله طوال نيّف وأربعة عقود. لكنّه ربط تدخّلهم بأيّ فعل سيقدم عليه الاسرائيلي فالمدني سيقابله مدني والعسكري سيقابله عسكري. بمعنى آخر سيلتزم نصرالله بقواعد الاشتباط طالما إسرائيل ملتزمة. وأيّ خرق لهذه القواعد ربطه نصرالله بمدى تطوّر الأحداث في الميدان الغزّاوي.
ثانيًا : بعدما لمست منظمة حزب الله جدّيّة التهديدات الدّوليّة التي تجلّت بديبلوماسيّة حاملات الطّائرات التي نجح الغرب، الأميركي بالتحديد، بفرملة أيّ اندفاعة لمساندة “حماس” التي باتت تساوي تنظيم داعش الإرهابي بحسب التصنيفات الغربيّة كلّها. وذلك لتوجيه تهديد مباشر إلى الأميركي ولتحذيره من أنّ منظّمة حزب الله لديها خطّة أيضًا لضرب الأساطيل الراسية في المتوسّط إذا دعت الحاجة.
وضعيّة الـ”Stand By”
صحيح أنّ نصرالله تعمّد أن تكون كلمته عالية النّبرة، مع حرصه على تضمينها مصطلحات التهديد والوعيد لإسرائيل وأميركا والغرب كلّه، لكنه لم يجرؤ أن يعلن دخوله في الحرب بشكل فوري ومباشر، بل اكتفى بالتذكير بأنّه في صلب هذه الحرب منذ 8 تشرين الأوّل. ما يعني ذلك عمليًّا أنّه سيبقى في وضعيّة ال Stand by بانتظار كلمة ما، ربطها بالميدان الغزّاوي. وجهده الأكبر صبّه في تبرير أيّ دور لإيران، ألا يدرك هؤلاء بعد أنّهم كبش فداء لإيران على مذبح المصالح الدّوليّة ! إمّا يدركون وهم يقبلون وفي ذلك قمّة الغباء. وإمّا لا يدركون وهم تعرّضوا لعمليّة غسل إيديولوجيّة نتيجتها نصر إلهيّ مرتقب مهما بلغت فداحة الخسائر. تمامًا كما حصل في حرب 2006.
مع الإدراك الكامل بأنّ التقيّة السياسيّة والعسكريّة التي يستخدمها اليوم على جبهة الجنوب من خلال الفصائل التي تقاتل إسرائيل من لبنان بإشرافه، تحت سقف قواعد الاشتباك التي تمّ تحديدها في نيسان من العام 1996، وتكرّست في القرار 1701 بعدما نجح بتقويضه، على غرار ما قام به النّظام السوري من حيث سورنته اتّفاق الطّائف. ولعلّ هذا ما أجهض الآمال كلّها ببناء الجمهوريّة الثانية وقتذاك. إنّما ذلك كلّه يحرص نصرالله من خلاله على عدم زجّ وليّ نعمته فيما يحدث.
وحدة الساحات ألا تعني وحدة المصير؟
من هنا، بدا نصرالله فاشلاً في دحض نظريّة وحدة الساحات التي أجهد نفسه منذ أيلول في العام المنصرم على تكريسها عرفًا ممانعتيًّا بعد زيارة العاروري والنّخالة إلى الضاحية الجنوبيّة؛ اللذان عادا وكرّرا هذه الزيارة بعد حرب غزّة. لتأتي كلمة نصرالله بدوزنة مباشرة من اسماعيل قآني قائد الحرس الثوري وأمير عبد اللهيان وزير الخارجيّة الإيراني بوجودهما في بيروت، فيما بدا محاولة فاشلة لإدارة الميدان، ولاسيّما بعد شعور حماس بأنّ مشغّلها الإيراني قد تخلّى عنها، لا بل اكثر من ذلك، بعد تحسّسها بانّها ستكون من أسمن الأضاحي على طاولة المفاوضات المقبلة.
وهذا ما يدحض كلّ خطابات نصرالله السابقة، حيث تجهد إيران لتحافظ على أدنى مستويات وجود حماس. فيما يبدو الاسرائيلي مصرًّا على الإجهاز على حماس بالمطلق. بمعنى آخر، هو على يقين تام بأنّه لا بدّ من أن طاولة المفاوضات ستكون مسك الختام. لكنّه حسم أمره. فهو على ما يبدو من مجريات الميدان بأنّه لن يجلس حتّى مع فلول حماس. لذلك المشغّل الإيراني، بات في حالة تريّث من إقحام فصيله الأقوى، أي منظمة حزب الله في هذه الحرب؛ وذلك لأنّه لمس جدّيّة الغرب وإجرام إسرائيل في الاصرار على القضاء على حماس. فهو لا يريد لمنظّمة حزب الله المصير نفسه.
من السذاجة إطلاق نظريّة وحدة الساحات في أيلول من الضاحية واليوم بعد فشل هذه النظريّة محاولة ربط كلّ شيء فقط بحماس. والتبرّؤ من أيّ مسؤوليّة بما حدث، حتّى بمجرّد الأخذ بالعلم للعلم فقط. فحتّى إيران لم يكن لها علم بحسب نصرالله. هذه قمّة الاستغباء. فإذا لا زالت تنطلي على جمهوره فهي حتمًا لم تعد تنطلي على أحد. صحيح أنّ هول الحدث قد قضّ مضاجع الإسرائيليين، لكنّ ردّة الفعل تجاه أطفال غزّة ونسائها والرجال العزّل فيها لم تقضّ مضجع أيّ إنسان في الغرب الذي لم يعد ينظر إلى المقاومة الفلسطينيّة وحماس إلا كفصيل جديد من داعش.
وحتمًا هذا الرأي يؤيّد التعامل مع هذا الفكر بالطريقة نفسها التي تمّ التعامل بها مع داعش. محقّ نصرالله باعتباره أنّ العالم دخل في مرحلة جديدة من الصراع. لكن ما أخفاه في خطابه هو طبيعة هذا الصراع القائم على الحضارات وليس على العسكر أو الجيوش أو الدّول. ما يعني ذلك فلسفيًّا انتصار نظريّة الفيلسوف اليهودي صمويل هنتغتون على نظريّة يوحنّا بولس الثاني.
ولعلّ الفشل الأكبر الذي سقط فيه نصرالله في خطابه هذا يكمن في سحب القضيّة الفلسطينيّة من الحاضنة العربيّة وزجّها في حاضنة فارس الصفويّة التي يفاخر بالانتماء إليها. وذلك بدا واضحًا من خلال انتقاده ردود الفعل العربيّة على أحداث غزّة. فالعرب عمومًا ليسوا بوارد مقايضة القضيّة الفلسطينيّة على حساب كرامة الشعب الفلسطيني عامّة، ولا حتّى على حساب حياة الغزّاويّين بشكل خاصّ كما تفعل إيران وحماس. ولا سيّما بعد دخول قطر على خطّ التهدئة.
وضعية الـ” Loose – Loose Situation”
نصرالله اليوم بوضعيّة Loose – Loose Situation، ومهما حاول تجميل هذا الواقع وقلب الحقائق، فهو لن ينجح بإيهام المجتمع العربي بنصرٍ إلهيٍّ بنسخة جديدة منقّحة. فالعدو الاسرائيلي لن يألو أيّ جهد في تسعير إجرامه أكثر فأكثر لأنّه اتّعظ من تجربة 2006 مع نصرالله بالذات. فالعالم كلّه شهد كيف نجح بوهم مجتمع بكامله بأنّه حقّق نصرًا إلهيًّا في ظلّ خسائر لا تقدّر بأثمان، وقرار دوليّ ضمن أمن إسرائيل لأكثر من 15 سنة.
لم تفاجئنا كلمة أمين عام منظمة حزب الله، لأنّه بكلّ بساطة، بالعودة إلى نظريّة مَن يوقع اتفاقيات السلام لا يدخل في الحروب، لن يجرؤ نصرالله على الدّخول في حرب الديناصورات الدّائرة. مع حرصه على ترك الاحتمالات كلّها مفتوحة. فبنهاية المطاف المصالح الجيو – إقتصاديّة هي التي تحكم هذه الحرب. وهذا ما حاول فاشلاً دحضه بحديثه عن مصالح اميركية إيرانية واتّفاق نووي وما شابه. فهو كمنظّمة تسيطر على لبنان كلّه، حمى نفسه بتوقيعه اتّفاق السلام الصامت في 27 تشرين الأوّل 2022 مع العدوّ الاسرائيلي، بعدما أهداه كاريش وتمار وليفيتان والخطّ 29 بالكامل. وذلك كلّه بالطبع، ليس من حسابه الخاص، بل من حسابات اللبنانيين كلّهم. إن لم يشارك في الحرب فهو خاسر، وإن شارك فنظريّة النصر الإلهي لم تعد نافعة.
ولا أعتقد أنّ العالم بأكمله مستعدّ لتكرار هذه التجربة الفاشلة. فنظريّة الإمامة الإلهيّة ستسقط على أسوار غزّة، كما ستسقط معها شيطانيّة إسرائيل. وفي نهاية المطاف، كلّ استغلال لحقّ الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره سيسقط على أعتاب القدس التي وحدها ستكون عاصمة فلسطين. وبما أنّ المصالح الجيو – إقتصاديّة هي التي ستتحكّم في عالم ما بعد غزّة، واهمّها المصالح النفطيّة، ولاسيّما في “لفياثان” و”تمار” الأقرب إلى قطاع غزة الذي كانت تسيطر عليه حركة حماس، إضافةً إلى كاريش الذي تعتبر إسرائيل انّه يقع قطعاً في منطقتها الاقتصادية الخالصة.
ويتمثل الردّ الإسرائيلي الرئيس على هذه المشكلة في الردع، لذلك، هي تدمّر بشكل استباقي غزّة وتمارس الانتقام الشامل. لأنّ هذه الفرصة بالنسبة إليها لن تتكرّر. ويبدو أنّ نصرالله قرأ جيّدًا هذه الدلالات قبل خطابه، لذلك برّر مشاركته والتزامه بقواعد الاشتباك، كما برّر لنفسه أحقيّة خرقها بعدما ربط ذلك بالاسرائيلي مباشرةً، وانكفأ تحت ذريعة الوقت والمكان المناسبين. مكتفيًا بالتباهي بما قام به العراق واليمن لبعدهما الجغرافي غن أرض المعركة. وهو يدرك جيّدًا انّ ما قام به الحوثي وما تقوم به ميليشيات إيران في العراق إنّما يندرج فقط في إطار رفع العتب. فالجوّ اللبناني كما قال يحتاج إلى الكثير ربّما في وقت لاحق.
هل سيعيد الغرب تكرار حماقته التي اعتبرها نصرالله نصرًا إلهيًّا في العام 2006 ؟
رفع السقف الاسرائيلي لن يقابله رفع سقف من قبل منظمة حزب الله أو أيّ فصيل مقاوم لأنّ هؤلاء يعوّلون على تكرار ما حدث بعد العام 2006. لكنّ العالم اليوم بات في مكان مختلف. لذلك كلّه، لن يتكرّر ما حدث.
وما المطالبة في خطابه اليوم بالعمل لتحقيق هدفين: وقف العدوان، وانتصار حماس. إلا ضرب من ضروب جنون العظمة الذي وصل إليه نتيجة اللعب على تناقضات المصالح الدّوليّة. لكن ما بات مؤكّدًا اليوم أنّ قاعدة العمل على أساس أحداث 11 أيلول ستلاقي النتيجة نفسها أينما كان هذا العمل في العالم. بدءًا ببيرل هاربر وصولاً إلى برجي التجارة في نيويورك ومرورًا بداعش وطالبان وليس انتهاء بحماس.
ولم يوفّق نصرالله بمعادلة الارقام التي حاول استخدامها ليظهر فشل الاسرائيلي في غزّة نتيجة ترييحه من قبل منظمة حزب الله على جبهة الشمال بعدما أجبره على سحب جزء من قوّاته هناك. صحيح ما قاله عن الهزيمة النفسيّة التي مني بها الجبروت الاسرائيلي، وهذا عار سيلاحقه إلى الأبد، لكن تعويله من جديد على رضوخ العالم أمام هول مأساة الغزّاويين، هذه المرّة قد لا يصيب.
في نهاية المطاف، كلّ الاحتمالات في جبهتنا مفتوحة، مع إعلان نصرالله الدّخول في المعركة منذ الثامن من تشرين، ولكن بطريقة مدوزنة على إيقاع الميدان في غزّة. مع تذكيره الدائم لتاريخ الأميركيين الانهزامي في لبنان منذ العام 1980، وقدرته المتنامية على استهدافهم قبل الإسرائيليين. فهل يتحمّل لبنان ذلك كلّه ؟ وهل يرضخ اللبنانيّون للمصير الذي زجّهم به نصرالله؟ أم سيكون للصوت الاعتراضي مفعول مستقبليّ أقوى من أزيز رصاصه ؟