بقلم عقل العويط
وما الروضةُ في فلسطين، أيّها العالمُ العاري من كرامته، إنْ لم تكن لعبةَ طفولاتٍ وحياةٍ وطيشٍ وأزاهير.
والروضةُ في فلسطين تأتيها الأموماتُ من كلّ رحمٍ وغيمةٍ وشجرة.
والروضةُ مريولٌ وشنطةُ مدرسةٍ، وضحكةٌ وفكرةٌ وشلّالُ صباحٍ وتنهيدةُ عصفور.
والروضةُ هي كلّما أشرقتْ شمسٌ من خلفِ زيتونةٍ وكنيسةٍ، وهي كلّما تفتّحَ وجهٌ وحمحمَ حصانٌ واستجاب مسيح.
وما رأيتُ روضةٌ في فلسطين إلّا تفوحُ وتبوحُ وتنتشي وترقصُ وتهمي وتبتسمُ وتتأهّبُ لتصيرً بساطَ ريح. فالروضةُ في فلسطين إسراءٌ وودٌّ وشميمٌ والتفاتةُ قلبٍ وامتناعُ يأس.
والروضةُ في فلسطين مصطبةٌ ومفتاحُ بيتٍ وشبّاكٌ وياسمينةٌ تستيقظ، ورجْعُ أغنيةٍ في الحلمِ ولهفةِ البال.
مَن له روضةٌ في فلسطين، فله الملءُ والاغتباطُ وارتعاشةُ اليقظةِ، وله الأفقُ والفجرُ عند ضفّتَي الممكنِ واجتراحِ المستحيل.
ومَن له روضةٌ في فلسطين، فله الصاجُ وخبزُ الطابون ورغيفُ الرشاقةِ ورقصةُ الفراشةِ حول الضوء. وله سائرُ الدنيا لتكونَ حبرًا للفروسيّةِ الآتية، وقميصًا للرفضِ، وترابًا لعشبةِ القيامة.
وقد قيل إنّ الروضةَ في فلسطين هي للملائكةِ حين يترجّلون من السماءِ لينشدوا نشيدَ الأرضِ المسروقة، ليلعبوا بشطرنجِ الوقتِ، بالعمرِ، وليتبادلوا سموَّ النسيمِ وأناقةَ الصهيل، وليستعيدوا المسروقَ من يدِ السارقِ الأصيل ولقيطهِ البديل.
فكلّما هتفتْ روضةٌ في فلسطين برائحةِ الطفولة، أذّن مؤذِّنٌ للحبِّ للشعرِ للأملِ للبطولة.
وتأتي من نواحي الروضةِ في فلسطين حواراتٌ، كتلك التي تحملها الزوارقُ مضفورةً بهتافِ الشِّباكِ وأغاني الوعولِ والصيّادين.
وليس صحيحًا أنّ الروضةَ في فلسطين برهةٌ فحسب، فهي النهارُ كلُّهُ، واستراحةُ عندليبٍ عند الدغشةِ، في انتظارِ نجمةِ الحلمِ وافتتاحِ الحديقةِ على التأويل.
وليس صحيحًا أنّ الروضةَ في فلسطين ليست كتابًا، فهي الكتبُ جميعُها، وهي المطرُ يهمُّ بتقبيلِ الأرض، وهي الربيعُ والينبوعُ، وهي الصيفُ والتفّاحُ وعناقيدُ الكروم، وهي الزبيبُ مسطوحًا في الخريف، وهي لوعةُ الأقصى، وأعجوبةُ قانا، ومزودُ بيتَ لحم، وهي الرامةُ، والربوةُ المسمّاةُ جبلَ زيتون، وهي القدسُ المعتّقةُ بتصوّفِ الروح، وهي نواحي الجليل، ورقصةُ العروسِ للعريس.
وقد قيلَ إنّ الروضةَ في فلسطين ماءٌ سلسبيلٌ يظلّ ينزف، كما أيقونةٌ كلّما احتاجتْ بلادنا إلى دمعةِ يوحنا ونظرةِ مريم وإبصارِ أعمى. وقد قيلَ إنّه كلّما سُمِعَ نداءٌ في اجتهادِ الترابِ، استفاق قلبٌ من كبوته، كما الحصان حين يستفيق. وليس لأنّ الروضةَ في فلسطين مجروحةٌ يستسلمُ العمرُ للجرح، فالجرحُ مجلبةٌ لثورةِ البخورِ على القبور.
ها روضةٌ هنا في فلسطين تنهضُ من تحتِ الركام، لتنشرَ مراييلَها المضرّجة على الحبق، ولترفعَ الضحكاتِ المعفّرةَ بدمِ الترابِ إلى الربوةِ المشتهاة، ولتجعلَ منها المنارةَ، وبوصلةً للتائهين. والروضةُ هي الثغاءُ، وهي العنفوانُ كلُّهُ، ممزوجًا بانتماءِ الطفولةِ إلى الزهوِ والليلكِ وشجرةِ السروِ والتحليقِ الذي من أوصافِ القيامةِ بعدَ كلِّ موت.
وفلسطينُ ما فلسطين إنْ لم تكنْ روضةَ أطفالٍ، وغابةَ عشقٍ، وإرادةَ حياة.
وليس ذلك، يا ناس، من أسبابِ الشقاءِ، بل من أسبابِ الفطنةِ التي تغلب استتبابَ القتلِ الجماعيّ وجهودَ المقبرة.
ولن تستتبّ مقبرةٌ في فلسطين لتُدفَنَ فلسطين، بل تستتبّ الحديقةُ، ولها شقيقاتٌ وروضاتٌ وازهرارُ طفولاتٍ في المعمورةِ جميعِها.
واعلموا، يا ناس، أنّه كلّما سقطتْ روضةٌ في التهلكة، في فمِ الوحش الصهيونيّ، نهضتِ الحديقةُ جميعُها من سباتها، من رفاتها، لتكون روضةً للطفولة في فلسطين.
وما روضةُ فلسطين، أيّها العالمُ المظلّط من كرامته؟ أليست هي فلسطين مغموسةً بأعجوبةِ المستحيل؟!
[email protected]
كلام الصورة:
روضة أطفال فلسطين، توليف فنّي للرسّام منصور الهبر.