بقلم ابراهيم حيدر
تحوّلت الحدود اللبنانية -الإسرائيلية، من الناقورة إلى تلال كفرشوبا، منطقة عمليات عسكرية أو خط مواجهة قتالية بين “حزب الله” وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وهي تشكل امتداداً لحرب غزة. المقاومة تنفّذ عمليات يومية ضد مواقع الاحتلال على طول الحدود، فيما تقصف المسيّرات الإسرائيلية أطراف البلدات الجنوبية وتستهدف بعضها نقاطاً عسكرية تراها إسرائيل تابعة لـ”حزب الله” من دون أن تتحول المعارك إلى مواجهة شاملة تتخطى حدود الليطاني، منطقة عمل قوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب (اليونيفل)، لكن شظاياها تطال الخطوط الخلفية بما يعني كسراً للقرار الدولي 1701.
وعلى الرغم من أن الوقائع تشير إلى أن الوضع في الجنوب بات مفتوحاً على كل الاحتمالات، فقبل معركة طوفان الأقصى هو غير ما بعدها، وفق الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله الذي أعلن في خطابه الأخير أن حزبه هو في قلب المعركة ما دامت قوات الاحتلال الإسرائيلي سحبت قسماً كبيراً من جيشها إلى الحدود الشمالية، وهو ما خفّف الضغط على غزة، لكن ذلك لا يحسم أن الأمور متجهة إلى حرب كبرى تبدأ من الجنوب لتطال المنطقة كلها. لكن الأخطر في ما يجري هو أن لبنان عاد في الزمن إلى مرحلة ما قبل عام 1978، حين كانت الحدود مسرحاً لمواجهات بين منظمة التحرير الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يشير إلى أن الواقع الجديد في الجنوب قد يمتدّ إلى مرحلة طويلة تفتح على احتمالات انفجار ربطاً بتطورات غزة، وفي الوقت نفسه قد تبقى ضمن إطارها الراهن مع ما تحمله من أخطار على لبنان بعد انتهاء الحرب وما قد تراكمه من نتائج إن كان بكسر حركة حماس أو نصرها.
في الواقع لم تعد قواعد الاشتباك القديمة منذ ما بعد حرب تموز 2006 تضبط جبهة الجنوب. لكن رغم بدء الحرب البرية الإسرائيلية واستمرار القصف التدميري لغزة، بقيت المعارك جنوباً ضمن خط الحدو، على الرغم من أن العمليات التي سُجّلت في الأيام الماضية تخطّت الميدان وتنذر بتوسّع دائرة المواجهة. ووفق المعطيات، فإن المنطقة الممتدة على طول الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة باتت جزءاً من سياق معركة غزة ولم يعد ممكناً فصلها عنها، إذ يتحرك “حزب الله” كطرف منخرط في المعركة مباشرة، يصعّد على وقع التطورات، ما يعني أن توقف الحرب وعودة الأوضاع إلى الستاتيكو السابق مرتبطان بوقف النار في غزة والتوصل إلى حل إقليمي دولي لا تتوافر شروطه حتى الآن.
السياق الذي تجري فيه المعارك جنوباً حدد عناوينها الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، وبتأكيده أن ما جرى في القطاع منذ عملية طوفان الأقصى هو معركة فلسطينية، لا يبدو أن جبهة لبنان مرشَّحة الآن للانفجار الشامل وفقاً لحسابات باتت معروفة، وليست مرتبطة بما يمكن أن يتحمّله بلد مثل لبنان في حرب تدميرية، بل بالعلاقة مع غزة وعدم السماح بكسر حركة حماس أو تهجير الشعب الفلسطيني. وجاء كلام نصرالله متماهياً مع ما حددته مرجعيته الإيرانية في التعاطي مع حرب غزة وأيضاً جبهة لبنان.
وبينما أعلنت إيران دعمها لحركة حماس سياسياً وعسكرياً، لكنها نفت المشاركة في التخطيط لعملية “طوفان الأقصى”، وهو ما أكده الأميركيون الذين أعلنوا رغم حشد أساطيلهم في المتوسط أنهم لا يريدون الحرب مع إيران، ويضغطون لمنع “حزب الله” من فتح جبهة لبنان، لكنهم في المقابل يديرون المعركة الإسرائيلية لإنهاء حركة حماس. وعلى وقع الحرب البرية الإسرائيلية لم يظهر تصعيد إيراني واسع في مواجهة الأميركيين، لا بل إن العمليات التي نُفّذت من حلفاء طهران أو أذرعتها في سوريا والعراق تراجعت، باستثناء ما يطلقه الحوثيون من صواريخ بالستية تُسقَط في البحر الأحمر، وقد بدا أن عدم الرد الأميركي يشير إلى أن واشنطن ليست في وارد خوض حرب مع إيران اليوم وكذلك الإسرائيليون، إن كان مباشرة أو بتوسيع للجبهات.
على هذا الخط من المواجهة، كان خطاب نصرالله منضبطاً لا بل محدداً في إدارة المعركة والصراع، لكنه لا يأخذ في الاعتبار ما يمكن أن تذهب إليه الأمور لبنانياً إذا طالت حرب غزة، وما يمكن أن تتركه من انعكاسات على البلد الذي يحتاج بالدرجة الأولى إلى الإنقاذ. وإن كان نصرالله لم يصعّد خلال ظهوره الأول بعد حرب غزة على الطريقة التي كان يهدّد بها بإزالة إسرائيل، فإنه حدّد سقوفاً ومعادلات أولاً بوقف إطلاق النار وثانياً بمنع كسر حماس، لأن ذلك سيعني خسارة لإيران و”حزب الله”، علماً بأن الخسارة الفادحة ستكون على الفلسطينيين. لذا كان واضحاً توجيهه رسائل متعددة إلى الأميركيين، مشدداً على أن تفادي التصعيد في المنطقة يجب أن يكون في وقف العدوان على غزة، وأن أميركا يمكنها ذلك. وبالتالي، على أميركا منع توسع الجبهات في المنطقة عبر الضغط على إسرائيل ووقف الحرب. كل ذلك يعني أن جبهة الجنوب ستبقى على حالها ربطاً بتطورات غزة، فيما كل الكلام عن وضع لبنان لا يرقى إلى العنوان الأساس وهو ما ينقذه من حرب محتملة بصرف النظر عن أهدافها، أو ما ينقذه من مغامرة بحسابات تتجاوز ما يحدث في غزة.
يتبيّن من كلام نصرالله أن المعركة في غزة طويلة ومفتوحة وفق التطورات. لكن هذه المعركة تختلف على جبهة لبنان عن حرب تموز 2006، وليس كما شبّهها بها الأمين العام لـ”حزب الله” من أن الإسرائيليين لم يتعلموا من تجاربهم في مواجهة قوى المقاومة. فما حدث في غزة وضع إسرائيل في مأزق وجودي، ودفع الأميركيين إلى إدارة المعركة لإنقاذها، ولذا فإن حربها ضد حماس تستهدف الفلسطينيين على أرضهم لإخراج إسرائيل من أزمتها وتأمين شروط انتصارها. وإن كانت إسرائيل لم تحقق هدفها بكسر حماس في الحرب العسكرية، فقد يزيد من جنونها، ويدفع الأمور حتى لإشعال الجبهة مع لبنان، خصوصاً إذا رأى بنيامين نتنياهو أن هذا الأمر يشكل مخرجاً لمأزقه في محاولة لضرب “حزب الله” على الحدود.
المخاوف تبقى من إطالة أمد الحرب، ومنح إسرائيل كل الفرص لضرب حماس وإخراج الفلسطينيين من غزة، فعلى الرغم من خروج أصوات دولية تدين المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، فإن ذلك لم يؤدّ حتى إلى هدنة إنسانية، وهو أمر سينعكس على لبنان سلباً، خصوصاً إذا تبيّن أن المعادلات الإيرانية ومن ضمنها “حزب الله” لم تمنع الاستفراد بغزة، وهو ما سيبقي جبهة لبنان مفتوحة مع تصعيد محور الممانعة لعملياته في سوريا والعراق واليمن، من دون أن يؤدّي ذلك إلى حرب شاملة، بل فتح بازار التسويات على الحسابات والمصالح. وبالعكس، إذا تمكنت “حماس” من الصمود مع مساندة جبهة الجنوب اللبناني، فإن الإيرانيين سيسعون لاستثماره إلى أبعد الحدود. وفي الحالتين يُفهم إلى حد بعيد الانضباط في خطاب نصرالله لقواعد الحرب والتفاوض.