بقلم رائد عماد الترك
رئيس التجمع الدولي للاستشارات – باحث في الشؤون الاجتماعية السياسية
في حين كان العالم يترقب عام 2022 الصين لتُشعل الحرب ضد تايوان اذا ما قامت نانسي بلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركية بزيارتها، ويترقب عام 2015 ردة فعل روسيا من جراء إسقاط طائرتها “سوخي” من قبل تركيا، أتت النتائج على عكس التوقعات لتؤكد ان الحرب ليست “فعل وردّة فعل” بقدر ما هي تخطيط تكتيكي على المدى الطويل تتنوّع فيه الوسائل العسكرية والخطابية “للتمويه والخداع” بهدف تحقيق النصر الاستراتيجي المُتوقع منها.
وفي خضم الصراع الغوغائي التي تشهده الساحة الفلسطينية، أتى خطاب السيد حسن نصرالله كما شبهه وليد جنبلاط عقلانياً وكما وصفه السيد بذاته انّه “واضحاً الى حد الغموض”، فغامضاً الى حدّ الوضوح.
وفي حين كان لبنان والوطن العربي، كما شعوب العالم أجمع في انتظار هذا الخطاب، تحدّث أمين عام الحزب مُتوجّها بشكلٍ ضُمنيّ وغير معلن الى قادة شعوب العالم وعلى رأسها القيادة الأميركية مُضمّنا خطابه رسائل ذي أوجه مُتعددة وشابكاً فيه التهديد والوعيد والنصح والتهدئة فالتصعيد.
أطل السيد مُحلّلاً لخلفية الحرب وأسبابها، ومُستعرضاً الخيارات المحتملة، ناصحاً بالتركيز على الدروس المستفادة من التجارب السابقة ومتدرجاً في حدّته الخطابية وصولاً الى التهديد باستخدامه لعبارة “اعددنا لها العدة” . تَدرّج حدة الخطاب وتصاعد نبرته شكلا مرآة تكتيكية للاستراتيجية التي سيعتمدها الحزب لإدارة هذه المرحلة.
تصعيد افقي وفق قواعد اللعبة
اتى خطاب نصرالله بعد سلسلة من الاحداث والتحركات الدبلوماسية الدولية التي استمرت على مدى 27 يوماً تتلخص بمناوشات عسكرية شهدتها ساحات المعركة بمختلف جبهاتها من غزة فاليمن والعراق فلبنان، وبمواقف الدول الداعمة لفلسطين كالجزائر والكويت وباكستان فايران وغيرهم، وبنقمة شعبية متزايدة تُشكِّل رأي عام مُعادٍ لما تقوم به “إسرائيل”، يرافقهم بالمقابل فشل في فتح “معبر رفح” وفشل في التحرك الدبلوماسي الدولي لإيقاف الحرب، ليتوج حسن نصرالله خطابه برسائل سياسية للمرحلة القادمة .
عكس خطاب نصرالله في رسالته الأولى تصعيداً أُفقياً تجلى بوحدة الساحات وبتباينها فيما بينها من الناحية الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية والأهداف التكتيكية الخاصة بكل واحدة منها بالإضافة الى الأخطار التي قد تحملها بتدخلها وأثرها على مراحل الحرب. كل هذه الساحات تجتمع لتدور بفلك واحد محدد الهدف الا هو “نصرة فلسطين وحماس”، لتُضبط معها بالتوازي ايقاعات الساحات وتصاعدها وتدرّجها حصراً بهذا الاتجاه وبحسب نتائج المعركة في غزة.
أما الرسالة الثانية فارتكزت على ما سبقها من أحداث وتمحورت حول ماهية التصعيد وكيفيته وعلى ما ستحمله كل جبهة من الجبهات بتكتيكاتها العسكرية واستراتيجياتها الحربية للحفاظ على قواعد اللعبة. ” لم يأتي التصعيد ” في خطاب نصرالله ثابتاً وجامداً بل مُتحرّكاً متغيراً بحسب الاحداث، يتصاعد ويتدحرج بحسب مراحل وتطور الحرب في غزة باحتمالاتها الثلاثة :
• إذا ما توسعت الحرب داخل الكيان وخاصة تجاه الضفة والجولان سيتم تحريك الجبهة الداخلية للكيان “الإسرائيلي” التي تتألف من غزة و الضفة والجولان وفلسطيني 48 والجبهة الحدودية من لبنان وسوريا.
• اذا استخدمت البوارج والقواعد العسكرية المتحالفة مع “إسرائيل” تدخل جبهة بعيدة الاتجاه عن “إسرائيل” كاليمن والعراق وجبهة ضد حلفاء “إسرائيل” ( سفارات وقواعد عسكرية و حدودية في المنطقة واريتريا الخ… ) كاليمن ولبنان العراق وسوريا.
• إذا اتخذت الحرب مدة أطول فلا بد حينها من استخدام جبهة نحو الممرات اللوجستية كمضيق هرمس وباب المندب وخليج العقبة.
وإذا ما اكتمل المشهد بمراحله الثلاثة فسيضغط على جبهة ما ” بعد- بعد” كمصر والأردن والكويت والجزائر وباكستان لاتخاذ موقفاً جذرياً من هذه الحرب وتحديد توجهاتها بشكل واضح وجازم ، ما قد ينتج عنه موازين قوى جديدة في المنطقة.
سُلَّم السِلْم بدلا من التَسْليم
مستشهداً بكيفية تحرير الأسرى في حرب تموز 2006، كشف نصرالله النقاب عن غموض خطابه داعياً كل من “إسرائيل” وأميركا للاستفادة من التجارب السابقة، وموضحاً الدور الاستراتيجي لموازين الردع وواضعاً المفاوضات كشرط أساسي لها.
السُلّم التصعيدي هذا الذي فرضه نصرالله للوصول لسِلمٍ أُفقي مشروط مع مَن حدده اللاعب والراعي الرئيسي لهذه المعركة وهي اميركا، ليضع المفاوضات في موقعها الرئيسي. وبرفع سقف المفاوَض معه، قام نصرالله برفع سقف المفاوضات وتوسيعها لتشمل بُعداً “إقليميا – افقيًا” غير مُنحصر بقضية تحرير الأسرى فقط الذي يعني الكيان “الإسرائيلي” بشكلٍ خاص.
بهذا يعود الاتجاه الافقي الى الساحة مجدداً نحو مفاوضات تشمل كل القضايا الإقليمية : من اليمن ونظامها، ولبنان وغازه وحُكمِه، وسوريا وأمنها ونظامها، والخرائط السياسية في العراق، وحَل الدولتين في فلسطين وصولاً الى “حل العُقدة الأساسية” لهذه الحرب وهي “الحرب الاقتصادية ما بين الشرق والغرب”.
وبهذا تدل زيارة كل من وزير خارجية الصين ومثيله الإيراني الى أميركا، ووضع الصين لبوارجها في الكويت، والوساطات القطرية/التركية، على ما تضمنه هذا الخطاب من وسعة التدخلات والمساعي الإقليمية لإيجاد الحلول التي ستُحسم وفق ترددات مراحل وجغرافية الحرب.
أخيراً، ان ما انتجه الانسحاب الأمريكي المفاجئ من الأراضي السودانية من فراغ أدى الى اندلاع الحرب فيها خلال ساعات ، قد نشهد برأينا نظيره اليوم ولكن بشكل معاكس، يتمثل بانسحاب البوارج الأمريكية وغيرها لفتح الطريق نحو المفاوضات بعد القمّه العربية وذلك لدعم توجهات “نصرة الحلول” وتضييق الطريق على نتنياهو ودفعه لإيقاف الحرب. وهنا، نستشهد بما قاله الـسـفـيـر الأمـيـر كـي الأسـبـق لـدى إسـرائـيـل “دانـيـال كـيـرتـزر ” نتنياهو أمام خيارين :
الأول، هو تحمل مسؤولية الإخفاقات السياسية والاستخباراتية والعملياتيه التي حدثت بعد عملية “طوفان الأقصى”.
الثاني التنحي التي ستجبره عليه لجنة التحقيق التي ستعقد بعد الحرب.
بعد انتهاء الحرب سيدخل العالم أجمع بسجال حول “من هو المنتصر ؟”، وحينها ستكثر خطابات “تعليل النصرة” كما حصل تماماً بعد حرب تموز، تضيع معها ماهية المنتصر… الا ان المنتصر واضح لا غموض فيه وهو “التوازن الأفقي الإقليمي” التي احدثته هذه الحرب.