بقلم د. ميشال الشماعي
أطلّ أمين عام منظمة حزب الله اليوم بشكل هادئ ولافت على وقع خفيف من أزيز الرّصاص الذي بالكاد سمع في أجواء بعض المناطق اللبنانيّة، وذلك في خطاب يوم الشهيد، تيمّنًا بالعمليّة التي نفّذذت في 11/11/1982 حيث تمّ قتل الحاكم الاسرائيلي العسكري في صور، و100 ضابط، وإعلن الحداد 3 إيام في زمن شارون. نفذها أحمد القصير، الذي أسماه أمير الاستشهاديّين.
حاول نصرالله بداية إدخال الشعوب العربيّة بشكل عام واللبنانيين بشكل خاص في عمليّة أدلجة مارسها طوال أربعة عقود على المكوّن الذي ينتمي إليه، فنجح بأسر بعض منه إيديولجيًّا؛ وذلك عبر عمليّة إسقاط لمفهومه للشهادة على مستمعي خطابه. فالشهادة عنده هي الموت في سبيل الله، وهي صانعة الانتصار.
بينما الشهادة الحقيقيّة إنّما تكون للحقيقة وليس بالضرورة أن تعني الموت للموت، بل هي مفهوم مقدّس من مفاهيم الحياة التي خُلقنا لنحياها بكرامة. لأنّ الله أرسل ابنه الوحيد واستشهد لأجلنا نحن ليفتدينا بدمه فيعيد إلينا الحياة الأبديّة. فموتنا إذًا هو عبور إلى هذه الحياة. فهذا اليوم بالنسبة إليه هو يوم انتصار الدم على السيف. بينما يوم الانتصار الحقيقي هو انتصار الحقّ على الباطل بقول الحقيقة مهما كانت صعبة. يوم انتصارنا بالمحبّة والأخوّة الانسانيّة، والحياد مع الحقّ ضدّ الباطل.
كما حاول نصرالله في كلمته إعادة إحياء مبدأ توحيد الساحات من خلال توحيد الشهداء الذين برأيه يعرفون العدو والصديق. ويفخرون بما اختاره الله لهم. فهذه المدرسة المؤدلِجة لا تنطبق على اللبنانيين كلّهم. فربّنا اختارنا للحياة وليس للموت. وما إشارته إلى الحدثين المتزامنين في هذه اللحظة كالآتي:
العدوان الاسرائيلي على غزّة وكل ما هو مدني.
التصدي البطولي من المقاومة الفلسطينية في المواجهة.
هذه الاشارة ليست إلا محاولة ساقطة منه باستعادة زمام المبادرة في ما يحدث في غزّة. صحيح انّ ما يحدث هو عدوان وحشي ومستَنكَر بأشدّ الألفاظ، لكن ما هو غير صحيح محاولة زرغعه نهجه المسلّح كثقافة، مستشهدًا ببعض التجارب في التّاريخ، ومسقطًا التجارب الأخرى التي قامت على العمل الحرّ والمؤسّسات وثقافة السلام والبناء. هذه الثقافة التي يؤمن به هو ومحوره، لا نؤمن بها بالشكل الذي يفرضها علينا. فنحن خير مَن قاوم أعتى الاحتلالات، لكن تلك التي طالت كرامتنا الانسانيّة وحرّيّتنا. صحيح انّ اللبنانيين لم يتخلّوا عن منظمة حزب الله بعد حرب 2006، وذلك ليس لإيمانهم بالثقافة النّهج والثورة التي تحملها هذه المنظّمة بل لأنّهم يؤمنون بالأخوّة اللبنانيّة الكيانيّة مع كلّ المكوّنات الحضاريّة التي تشكّل مجتمعةً الكيانيّة اللبنانيّة.
من هنا بالذات كانت محاولة مشروع لبننة منظمة حزب الله؛ هذا المشروع الذي استمرّ من 14 آذار 2005 حتّى 7 أيّار 2008 حيث سقطت هذه المحاولة بالضربة القاضية وبالسلاح المقاوِم الذي تمّ قتل اللبنانيين بوساطته ليعود بعدها ويتحفنا بأنّه يسير على طريق القدس. من هنا، لم يألُ أيّ جهد بمخارته بإسقاط مشاريع التطبيع مع العدو الاسرائيلي. فهو واهمًا لا زال يعتقد انّ العرب جميعهم يؤيّدون مشروعه، فيما يكفي استعراض أبرز ما صدر من مقررات عن القمّة العربيّة التي انعقدت مساء السبت تزامنًا مع إلقائه خطاب الهدوء النسبي والتي اعتبرت منظمة التحرير الفصيل الشرعي الفلسطيني الوحيد وطالبت جميع الفصائل الانضمام تحت لوائها.
هو الذي طالب هذه ال 57 دولة إسلاميّة وعربيّة باتّخاذ موقف جدّيّ ممّا يحدث فجاء ردّها مزلزلاً. ليثبت مرّة جديدة انّ العرب ليسوا مع ثقافة نصرالله في الموت للموت في سبيل الله. فليمت وحده مع الذين يؤمنون بعقيدته. قالوها بفمهم الملآن.
لكنّ إحباط نصرالله الذي تبدّى من انخفاض حدّة نبرته، وعدم رفعه سبابته بوجه العدو والعرب والعالم وبعض معارضيه في الدّاخل حيث ألمح إلى انّه لن يعطيهم شرف الردّ عليهم، دفعه من جديد للربط مع الميدان الغزّاوي حيث علّق كلّ آماله هناك. لكأنّ الدماء الفلسطينيّة هي رخيصة لهذه الدّرجة حتّى لا زال يستثمر في مشروعيّته الخاصّة عبر المزيد من إهراقها على مذبح مصالح الدّول الجيو -إقتصاديّة الكبرى. وما استعراضه لعمل الجبهات المساعدة لعمله إلا محاولة إضافيّة لإبراز صوابيّة مشروعه، ليبرز من خلفها مشروعيّة وجوده التي يفقدها مع كلّ قطرة دم طفل فلسطينيّ تسقط في هذا الميدان.
فالفلسطينيّون براء من استثماره الرخيص في دمائهم. ومشاريعه الاستيطانيّة في العواصم العربيّة الأربع وغزّة معهم لا تعني الشعب الفلسطيني بشيء. ونموذج الدّولة والميليشيا في اليمن والعراق قد أسقطته النتائج الحياتيّة التي وصلت إليها هذه الشعوب. ومحاولة أمركة داعش ساقطة أبريوريًّا؛ لا قيمة لها في هذا الكلام الممجوج.
فالعالم كلّه يعرف من أخرج قادة داعش من السجون، ومن سمح لهم بالاستيلاء على سوريا ليعود هو نفسه منصّبًا بعثه محاربًا للإرهاب ليحتفظ بذريعة لوجوده في عيون صديقه اللدود الذي أهداه الجولان، والغرب الامبريالي الذي ما فتئ يبتزّه، لكن ليس إلى ما لا نهاية !
أمّا الحديث السفيه عن البيئة الحاضنة التي باتت لاعنة لهذا المشروع ولهذه الايديولوجيا التي تقتل أبنائها، فهذا حديث ممجوج سقط على أعتاب ضاحيته وعلى أسوار قلعة بعلبك وسهول الجنوب. ورهانه على الوقت سيكون لمحق ما تبقى من أهل غزّة، ولمزيد من استنزاف اللبنانيين عمومًا والذين آمنوا في مشروعه الجهادي بوجه أدقّ. فلا الرأي العام الدّولي تحوّل، والدّول تريد توسيع الاشتباك لتحقق ما تصبو إليه من مشاريع آمنة في منطقة الشرق الاوسط.
وحده اليوم نصرالله يتكلّم بشيء ويضمر نقيضه. حتّى بات يصحّ فيه لقب “الدالاي نصرالله”، داعية الحوار والسلام. ليس حبًّا بالحوار أو السلام، بل ليحافظ على مكتسباته في صلب الدولة اللبنانيّة، حيث يبدو أنّه أيقن نهاية هذه المرحلة وولادة لبنان الجديد الذي لن ينعم بالهدوء النسبي، بل بالهدوء الكلّي، بعد غلبة مشروع الحياة على مشاريع الموت كلّها والتي من ضمنها مشاريع كلّ من اسرائيل الاستيطاني والعدواني والعنصري، والمشروع الصفوي الملالي، والمشروع الاخواني الأصولي