الحرب الأميركية الإسرائيلية المفتوحة وجبهات المواجهة المتصدعة

بقلم زكي طه

” نرفض تهجير الفلسطينيين من مناطقهم بالقوة”. هذا ما يقوله وزير الخارجية الأميركي خلال جولاته، وفي أعقاب لقاءاته المتكررة مع المسؤولين العرب، مؤكداً رفضه الموافقة على وقف اطلاق النار، قبل أن تحقق الحرب أهدافها ويتم القضاء على حماس. وهي الجولات التي يسعى من خلالها إلى بلورة صيغة إدارة شؤون الشعب الفلسطيني في ضوء نتائج حرب التهجير المفتوحة، وعمليات الإبادة والمجازر الجماعية، التي تستهدف وجوده وحقوقه الوطنية على أرضه، من خلال تصعيد القصف التدميري والغزو البري لمدن ومخيمات قطاع غزة والضفة الغربية المحاصرين منذ سنوات على مرأى من العالم أجمع.

إنها الحرب التي تنفذها قوات الاحتلال الاسرائيلي، تحت إشراف وبقيادة الولايات المتحدة الأميركية. والتي يرعى ويدير وزير خارجيتها مساراتها السياسية. ويتولى شرح الأسباب الموجبة لاستمرارها، وسط تجاهل تام لما ينتج عنها من مجازر جماعية وعمليات إبادة بشرية لم ينج منها حتى الاطفال والنساء الذين التجأوا إلى المدارس والمستشفيات ودور العبادة. وهي الحرب التي اتخذت من عملية “طوفان الأقصى” ذريعة لها، لأنها وضعت الكيان الصهيوني ودولته أمام امتحان وجودي يختلف عن كل ما سبقه منذ إعلان التاسيس قبل 75 عاماً. وكان من نتائجها إنكشاف مدى هشاشة بنى الكيان والدولة والمجتمع الاسرائيلي، وفضح عدم كفاءة قيادته السياسية والعسكرية والأمنية. الأمر الذي أجبر رعاتها الدوليين وفي طليعتهم الولايات المتحدة الاميركية إلى نجدتها بأسرع ما يمكن وعلى كل المستويات السياسية والعسكرية والمالية لحمايتها من الانهيار.

وهو الوضع الذي أعاد الاعتبار للمعطيات والتحديات التي رافقت الوعد البريطاني عام 1917، بإقامة “وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. والذي سبق تأسيس سائر الكيانات العربية في أعقاب الحرب العالمية الأولى بموجب اتفاقية سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا. استناداً لعمليات الفرز والضم التي جرت بينهما في اعقاب الحرب العالمية الأولى، والتي مهدت لاعلانات تأسيس لبنان وسوريا والعراق عام 1920، وما تبعها لاحقاً من إمارات وسلطنات في منطقة الخليج العربي.

صحيح أن تأسيس دولة اسرائيل تم بقرار من الامم المتحدة، وسبقه مخططات استيطان وعمليات تهجير ومعارك ونزاعات امتدت عقوداً مع الفلسطينيين، برعاية بريطانيا وسائر الدول الاوروبية وروسيا وأميركا. ما يعني أن الكيان الصهيوني تأسس بقوة دعم ورعاية الدول التي كان لها مصلحة في وجوده. وهي التي لم تألو جهداً لتحصينه وحمايته، من الرعاية السياسية والدعم الاقتصادي والمالي، إلى تشجيع الهجرة إليه وتمويل مخططات الاستيطان وبناء المستعمرات، وصولاً إلى الضمانات العسكرية بما فيها خوض الحروب من أجله.

ولذلك فإن حصانات وجود إسرائيل كانت ولا تزال تستند إلى الخارج. وهي لم تكن يوماً مستمدة من بنيتها الداخلية أو من قوتها المُدعاة، سواء تعلق الأمر بالصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الأمني. هذا ما أكدته جميع الحروب التي فُرضت عليها منذ إعلان تاسيسها أو التي قررت القيام بها، وأهمها 1956، 1967، 1973، مروراً باجتياح 1982، عدوان ال 2006 في لبنان، وصولاً إلى الحرب المفتوحة الآن. لكن التحدي الأهم الذي يطعن بوجود اسرائيل، كان ولم يزل يكمن في بنية المجتمع الذي يتشكل بمجمله من مستوطنين. والذي يضع هؤلاء بصرف النظر عن تواريخ مجيئهم إليها، أمام صعوبات لا تنتهي على صعيد الهوية والانتماء والتشكل في مجتمع طبيعي، لم يزل يفتقد لعوامل الاستقرار والأمان على ارض فلسطين. لأن دولته ومؤسساتها وقواها، ومنذ وعد بلفور ولغاية الآن كانت ولا تزال مجبرة وبشكل يومي على خوض معارك تجديد احتلالها للمدن والبلدات الفلسطينية، وتكرار محاولات إخضاع سكانها الأصليين أو تهجيرهم دون جدوى.

وكما ساهمت عملية “طوفان الأقصى”، في انكشاف هشاشة بنية دولة اسرائيل على جميع المستويات، ودفعت بالدول المعنية بوجودها في إطار مصالحها الأوسع على صعيد المنطقة، إلى الاسراع في نجدتها، وخوض حرب حمايتها وتجديد تأسيسها لتكريس وجودها وصياغة ضمانات دورها. فإن العملية ومعها الحرب التي بدأت بذريعتها، قد ساهما في تعرية عمق الخلل البنيوي لدى سائر كيانات ودول المنطقة العربية. وفي كشف فداحة ما هي عليه اوضاعها الراهنة وحجم المخاطر التي تهدد مستقبل وجودها شعوباً وكيانات وطنية، جراء فشل جميع التجارب والمحاولات التي أنخرطت فيها نخبها الحاكمة ومعارضاتها المدعاة بكل تلاوينها الفكرية والسياسية القومية والوطنية واليسارية، منذ تأسيسها أو الإعلان عن وجودها بلدان مستقلة ذات سيادة وهوية وطنية في الإطار القومي العربي الأعم.

إن الوضع الراهن والسائد الآن لم يأت من فراغ. صحيح أن بلدان المنطقة العربية، تأسست بقرارات خارجية. والصحيح أيضاً أن بنى تلك البلدان كان فيها عوامل وحدة وانقسام في آن. وكلاهما موروث من حقبات تاريخية طويلة. لكن الأصح الذي تؤكده الوقائع الراهنة، أن عوامل الإنقسام تحولت ألغاماً ساهمت في تهميش عوامل الوحدة وصولاً إلى الاطاحة بها. حصل ذلك جراء استغلال النخب والنظم والاحزاب الحاكمة لعوامل الانقسام، عبر محاولاتها لتأبيد تحكمها بمجتمعاتها أو من خلال مواجهة المتضررين منها أو المعترضين عليها. وهم الذين فشلوا أيضاً في بناء البدائل القابلة للحياة. لأن الديمقراطية كانت مفقودة ومفتقدة لدى أهل الحكم وقوى المعارضة في جميع التجارب والمحاولات على صعيد بناء الدولة وتوحيد المجتمع والتي غاب عنها تنمية وتعزيز عوامل الوحدة وقبول الآخر. أما النتيجة فكانت سيادة القمع والاستبداد وتعدد الأزمات وانفجارها وتشريع الأبواب للتدخلات الخارجية الاقليمية منها والدولية، على رافعة عوامل الانقسام الداخلي بكل منوعاتها الدينية والطائفية والقومية وما يقع في امتدادها من بنى عشائرية وقبلية وغيرها.

وبما أن تلك البلدان فقدت عوامل استقرارها وأمنها وحصانات وجودها، مع انهيار دولها ومؤسساتها وشرذمة نخبها واحزابها وضياع ما راكمته على صعيد هوياتها الوطنية والقومية بين ركام مجتمعاتها المفككة. فقد كان من الطبيعي أن تتحول بمجملها ساحات وميادين للتدخلات الخارجية القريبة والبعيدة، التي تساهم في تزخيم نزاعاتها، وتتحكم بأوضاعها كافة، وهي التي تحدد أدوار قواها وتدير خلافاتها ونزاعاتها المتعددة الأوجه انتهاءً بتقرير مصائرها.

يشهد على ذلك الوضع الراهن في العديد من بلدان المنطقة، في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين و… على نحو لا يعود معه مستغرباً ان تختلف الحرب الحالية التي تنفذها اسرائيل عن كل ما سبقها من حروب من حيث طبيعتها واهدافها، بما فيه قيادة الولايات المتحدة لها ومشاركة سائر الدول المعنية بوجود هذا الكيان انطلاقاً من مصالحها، واستهداف وجود الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية على ارضه، بعيداً عن كل ادعاءاتها حول حقوق الانسان التي تطعنها الوقائع اليومية.

ولذلك ليس مفاجئاً أن الحرب التي تخوضها إسرائيل، ضد الشعب الفلسطيني تكاد أن تكون من طرف واحد، لأن عمليات القصف والقتال التي تقوم بها فصائل المقاومة جميعاً في مواجهة الغزو البري لقطاع غزة وعبر الاشتباك مع قوات الاحتلال في مدن وبلدات الضفة الغربية، ومعها التضحيات الهائلة وغير المسبوقة التي يدفعها الشعب الفلسطيني، لا تزال تفتقد للأهداف السياسية الواضحة والمحددة، حالها من حال عملية “طوفان الأقصى” التي حدثت وسط الانقسام الفلسطيني وغياب برنامج وخطة سياسية تظللها وحدته الوطنية. وهذا ما يبقي سائر الأطراف، سلطة وفصائل تحت سقف المطالبة بوقف اطلاق النار وتبادل اطلاق المعتقلين والاسرى وحماية المدنيين وتسهيل دخول المساعدات وعمليات الإغاثة للذين يستميتون في الصمود ومحاولة البقاء على أرضهم بقوة التضحية بدماء وحياة أبنائهم.

أما ما يجري تحت راية المساندة لحماس في معركة غزة، من ساحات وعلى جبهات أخرى، فهو ليس إلا محاولات إبراء ذمة، في صيغة إدعاء المشاركة في الحرب المفتوحة، والاستثمار في تضحيات الشعب الفلسطيني بأمل جني مكاسب لا يبدو أنها قابلة للتحقق بالنظر لطبيعة أهداف الحرب وجذريتها في التعامل مع قضايا المنطقة وأوضاعها. وهذا ما جعل سائر الدول العربية تبدو بمثابة شهود زور بشأن ما يجري. أما إيران وتركيا وقطر، رُعاة الانقسام الفلسطيني والاستثمار في قضيته الوطنية، فقد تحولوا خلال الحرب إلى وسطاء لتبادل الأسرى، ودُعاة إغاثة ومطالبة بوقف العدوان، والتهويل بحرب لن يغامروا بخوضها، لأنهم ينتظرون تفاهمات واتفاقات مع اميركا، علّها تحفظ لهم مصالحهم ومواقع نفوذهم في المنطقة. ولذلك تبدو جبهات المواجهة العربية والاقليمية المُدَّعاة في ميادين السياسة وعلى جبهات القتال، كم هي متصدعة، ,محكومة بانتظار ما سيقرره الطرف الذي يتحكم بمجريات الحرب ونتائجها.

وكما وأن الشعب الفلسطيني وقيادته وقواه الحية معنيون اليوم بالعمل وبشتى الوسائل، من أجل بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه واستعادة وحدته، وسيلة وحيدة لبقاء قضيته الوطنية حية، وعدم هدر ما يقدمه من تضحيات تتجلى في نهر الدماء الحارة التي يقدمها أبناؤه في سبيلها. كذلك فإن اللبنانيين الذي يعنيهم بقاء لبنان وطناً موحداً لجميع ابنائه، خلافاً لقوى السلطة وأحزاب الطوائف التي تتلاعب بمصير البلد وتغامر بمستقبله، هم معنيون بعدم الاستهانة بالحرب الدائرة في المنطقة وانعكاساتها الخطيرة على لبنان والتي يفاقمها انهيار الدولة والانقسام الأهلي والهروب من المسؤولية، ولذلك هم أمام تحدي المبادرة والعمل لإنقاذ بلدهم والسعي لاستعادة الدولة ودورها وقرارها الموحد، وبناء وحدتهم الوطنية الجامعة، مستفيدين من أخطاء تجاربهم السابقة وعدم تكرارها بما فيه استنساخ ما كان مجيداً من تجارب المقاومة، وقد كان لها سياقها ومعطياتها التي لم تعد قائمة.

اخترنا لك