بقلم عقل العويط
سحبت إدارة “كريستيز” لوحتَين للفنّان التشكيليّ اللبناني أيمن بعلبكي (لوحة “الملثّم”، 2012، أكريليك على قماش، 200سمX150سم، ولوحة “مجهول”) كان مقرّرًا بيعهما في مزاد الدار لفنون الشرق الأوسط الحديث والمعاصر يوم 9 تشرين الثاني في لندن، بعد “سلسلة من الشكاوى حول هذين العملين”، دون الكشف عن طبيعة هذه الشكاوى. وصرّحت دار المزادات في بيان عقب سحب العملين بأنّ “القرارات المتعلّقة بالمبيعات ستظلّ سرّيّة بين كريستيز والوسطاء”، وردًّا على بريدٍ إلكترونيّ من مالك اللوحة الذي فضّل عدم الكشف عن هوّيّته، أوضحت الدار أنّها “تلقّت الكثير من الشكاوى التي في إمكانها التأثير على عمليّات البيع، لذا فضّلنا سحب العملين”.
العملان ليسا مزوّرين بالطبع، بشهادة مَن يمنح الشهادات التي تعلو على كلّ الشبهات، وليس ثمّة احتمال سرقة أو تبييض أموال، أو سوى ذلك من الأسباب المريبة التي تسيء إلى سمعة دار المزادات وصدقيّتها، فلماذا يُسحب عملان فنّيّان إذا كانا بريئين من الأسباب الموجبة للسحب؟
ما يعنيني خصوصا لوحة “الملثّم”. وهي في الغالب الأعمّ وجهٌ لشابٍ مقاتلٍ أو مؤيّدٍ للقضيّة الفلسطينيّة. وجهٌ صامت، بعينين واثقتين. الخلفيّة تجسّد منمنمةً واسعةً من الورد الأحمر والأبيض، في تماهٍ مع لونين من ألوان الكوفيّة المتعدّدة. والعمل يتأرجح بين مماثلةٍ فنّيّة تستمدّ مشروعيّتها من الموضوع، أي العالم الخارجيّ، وبين العرض الفنّيّ الذي يقدّم العمل باعتباره تجربةً فرديّة دقيقة حيث يختبر المنحى الشخصيّ للفنّان الأسلوب التعبيريّ في اللطخات العنيفة واللزجة للون في ثقله وقوة حضوره.
لماذا يا “كريستيز”؟ ألأنّ “الملثّم” يحمل دلالاتٍ إنسانيّة ومضمونيّة وإيحاءات تومئ إلى رمزيّة الكوفيّة الفلسطينيّة؟
الكوفيّة، لمَن لا يعلم، يعتمرها الناس، ويتلفّعون بها، ويتّخذونها وشاحًا، من مشارق الأرض إلى مغاربها، ومن شمالها إلى جنوبها، باعتبارها زيًّا، ونوعًا من تأنّقٍ أوريجيناليّ شبابيّ “غير شكل”، عابر للجغرافيات والتأويلات. صحيحٌ أنّ شهرتها في الأساس فلسطينيّة، وأنّها شرق أوسطيّة، وصحراويّة، وشمال أفريقيّة، وأفروآسيوية، لكنْ أيجوز أنْ تصير هذه الكوفيّة اليوم تهمةً ومسبّةً وترويجًا إيديولوجيًّا مباشرًا وآنيًّا لقضيّةٍ، شاءت الظروف الموضوعيّة الراهنة في فلسطين المحتلّة منذ السابع من تشرين الأوّل الفائت، أنْ تصبح هذه القضيّة موضوع الساعة في حرب الإبادة الاستئصاليّة المريضة والمسعورة والماجنة والمجنونة التي تشنّها إسرائيل على شعب غزّة وشعب فلسطين برمّته، ممّا يجعل دار المزادات العالميّة ترضخ – على الأرجح – للوبي الصهيونيّ وللدعاية الصهيونيّة، فتسحب من معروضاتها للبيع ما تراه هذه “الدعارة” الصهيونيّة تهديدًا لاستتباب إرهابها الدعائيّ الديكتاتوريّ غير القابل للاحتمال؟ وهل وصل الحدّ بالإرهاب الفكريّ والثقافيّ الصهيونيّ إلى هذا الدرك من الابتزاز والضغط والقهر، بحيث تجد “كريستيز” نفسها مضطرّة إلى خيانة معاييرها والرضوخ والخنوع من أجل حفنة حسابات ومصالح ودولارات؟ وإذا كان من حقّ هذه الدار أنْ تحافظ على مصالحها المادّيّة والمعنويّة، أليس من حقّ المعنيّين بالمزادات من ذوّاقة فنون وتجّار فنّ وباعة أعمال فنيّة وشراة، أنْ يتمكّنوا من تحقيق مبتغياتهم في هذا المجال، إذا كان أحد مبتغياتهم الحصول على لوحة “الملثّم” التي عرضتها الدار بملء إرادتها ورغبتها ومصلحتها وحساباتها، على الرغم من معرفتها الكاملة بإيماءاتها – ولِمَ لا – الفلسطينيّة؟
بما أنّ الموضوع انحدر إلى هذا المستوى من الانحطاط الروحيّ والاخلاقيّ والقيميّ والمعياريّ، فلنفترض أنّ هيئاتٍ ومرجعيّات حقوقيّة وجماعات فنّيّة ومؤسّسات ثقافيّة ومدنيّة وإنسانيّة قرّرت في المقابل أنْ “تشنّ حربًا” ثقافيّةً ضدّ دار المزادات، متّهمةً إيّاها بالعنصريّة والتمييز والرضوخ للابتزاز والإخلال بالمعايير القانونيّة والفنّيّة المتّبعة عالميًّا، لأنّها نزلت عند رغبات جهاتٍ صهيونيّة، لا تتحمّل أنْ ترى كوفيّة، محض كوفيّة، علمًا أنّ الكوفيّة التي تقدّمها لوحة أيمن بعلبكي، إنّما هي معطًى فنّيّ تشكيليّ أسلوبيّ تعبيريّ، ينأى بمكوّناته وعناصره اللونيّة والبنائيّة عن أيّ استغلالٍ وترويج، ويندرج باعتباره مزاجًا تشكيليًّا، و”موضةً” فنّيّة، على غرار ما تستعين به دور الأزياء العالميّة من أشكالٍ وطقوسٍ وتعابيرَ ورموزٍ وأقنعةٍ ذات علاقة بالحضارات المختلفة، فتجعلها في صميم أثوابها ومعروضاتها التي تتحرّر – باعتبارها موضةً – من كلّ “إسقاطٍ” سياسيٍّ أو عرقيٍّ أو دينيٍّ أو إيديولوجيّ مباشر. وماذا لو كان ثمّة لوحة فنّيّة في الدار نفسها، تحمل إيماءً طقوسيًّا إسرائيليًّا، وهمس أحدٌ همسًا، غامزًا من قناة تلك اللوحة، داعيًا إلى سحبها (هل تسحبها دار المزادات؟!)، أما كانت قامت القيامة ضدّه، واعتُبِر موقفه “هولوكوستًا” فنّيًّا، فهبّ “العالم الحرّ” دفاعًا عن تلك اللوحة؟
وما دامت الهلوسة الصهيونيّة المريضة صارت هلوسة مزادات، ماذا لو يقرّر المتحف الوطنيّ في أوسلو، أنْ يتخلّى لسببٍ ما عن لوحة “الصرخة” (91 سم X 73.5 سم) التي رسمها الفنّان التعبيريّ النروجيّ إدوارد مونخ بالزيت على قماش في العام 1893، تعبيرًا عن القلق الوجوديّ الذي يعصف بالإنسان الحديث، ليعرضها للبيع في مزادٍ علنيّ، ثمّ جاء مَن “يهمس” في أذن دار المزادات أنّ هذه اللوحة قد تفسَّر الآن، بعد نحوٍ من 130 سنة على رسمها، بأنّها لسببٍ من الأسباب، “معادية للمهاجرين المسلمين والعرب في النروج”، أو بأنّها، لسببٍ ما، “معادية للساميّة”، ممّا يلحق الضرر بسمعة دار المزادات وبمصلحتها التجاريّة، فتقرّر الدار تحت الضغط الترهيبي سحبها من المزاد؟
أو ماذا لو يقرّر “متحف رينا صوفيا” في باريس أنْ يتخلّى هو الآخر عن لوحة “غيرنيكا” (3.49 أمتارX 7.77 أمتار) التي رسمها الفنّان الاسباني بابلو بيكاسو في العام 1938 تخليدًا للمأساة التي تعرّضت لها بلدة غيرنيكا الباسكيّة الاسبانيّة عندما قصفها الطيران الهتلريّ النازيّ الالمانيّ، ليعرضها للبيع في مزاد علنيّ؟ هل كانت قيامة المانيا لتقوم – اليوم – لأنّ اللوحة تصم تاريخها بالعار، فتطالب بسحبها من المزاد؟
أبشع ما في هذه المسألة أنّ اللوحة، لوحة “الملثّم”، تُزاح من مكانتها الفنّيّة، بإرهابٍ دعائيٍّ صهيونيّ (على الأرجح)، ليجري إلباسها، وبالقوّة الدعائيّة الفاجرة، لبوسًا غير فنّي، فلا يُنظَر إليها بعد الآن باعتبارها عملًا فنّيًّا، بل باعتبارها “آلة دعائيّة فلسطينيّة”. أليس من يرضخ للإرهاب الفكريّ… إرهابيًّا هو الآخر؟!
هذا عارٌ قرّرت دار “كريستيز” أنْ تلحقه بنفسها، حين يصير سحب اللوحة نوعًا من الرضوخ لإرهابٍ معنويّ ومادّيّ مشهود!