بقلم د. ميشال الشماعي
تعيش منطقة الشرق الأوسط حالة من الازدواجيّة وفاقًا لمشروعين باتا واضحين وضوح الشمس، ولكن لمن يريد أن يرى بهذا الوضوح. فلم يعد خافيًا وجود مشروع الثورة الاسلاميّة الصفويّة الذي بات في عمق كلّ من اليمن وسوريا والعراق ولبنان وغزّة، عبر ميليشيات مسلّحة أسّستها الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران، ومشروع يتطلّع نحو بناء دولة ومؤسّسات تدير شؤون هذه الدّول. هل سيعبر الشرق الأوسط بين هذين المشروعين من دون إراقة للدماء ؟
تطفو أحداث حري غزّة على سائر أحداث المنطقة راهنًا. لكن لا يمكن إهمال أيّ شأن في أيّ بلد، ولاسيّما إذا كان فاعلاً جيوبوليتيكيًّا كلبنان أو العراق أو سوريا أو اليمن. فهذه الدّول مجتمعةً باتت تشكّل محورًا لكنّه لم يستطع حتّى الساعة تثبيت ذاته لأنّه ما زال يواجَه سياسيًّا. أمّا طريقة عمله فتختلف حيث مواجهته تغلّب الطابع العسكري، ولو تستّرت أحيانًا بالسياسة. لكن تبقى الكلمة الفصل للسلاح غير الشّرعي.
نجح هذا المحور بفرض ازدواجيّة داخل الدّول التي تغلغل فيها قوامها ميليشيا مسلّحة ودولة ضعيفة هشّة إلى حدّ الوقوف على شفير الانهيار، لكن من دون أن تسمح لها بالانهيار. على غرار ما هو حاصل داخل الجمهورية الاسلاميّة في إيران ما بين الحرس الثوري، الجيش الرّديف، ومؤسسات الدّولة التي يطبق عليها بيد من حديد.
وما ساعد على إضفاء بعض من المشروعيّة على هذه الازدواجيّة نجاح الجمهورية الاسلاميّة في إيران بتحويلها إلى حركات مقاومة في لبنان مثلاً بوجه العدوّ الاسرائيلي. فحتّى بعد انسحاب 25 أيّار من العام 2000، وانطلاقًا من مبدأ وحدة المشاريع والساحات، تمّ الابقاتء على مزارع شبعا وتلال كفرشوبا لإبقاء الذريعة للسلاح. وبعد إسقاط ذريعة الخلاف على الحدود البحريّة من خلال اتّفاق السلام الصاصمت الذي تمّ توقيعه في الناقورة في 27 تشرين الأوّل 2022. تمّ ربط هذا السلاح بكرامة المكوّن الشيعي في لبنان. ليتحوّل إلى سلاح سرمديّ لا يمكن انتزاعه.
أمّا في سوريا والعراق فتمّ تحويل هذا السلاح إلى مقاوم للوجود العسكري الأميركي وللحركات الدّاعشيّة التي كان لنظام الأسد اليد الطولى بتأسيسها كحجّة لضرب معارضيه بالسلاح الكيميائي الذي صرف مقدّراته كلّها لاقتنائه، بحجّة إقامة توازن رعب مع العدو الاسرائيلي. لكنّه استخدمه ضدّ شعبه، وباع اسرائيل الجولان مقابل تأمينه حدودها، وسكوته عن ممارساتها بحقّ القضيّة الفلسطينيّة؛ وسكوتها عن بقائه في الحكم، برغم وجوده الأقلّويّ. وفي اليمن تمّ تحويل هذا السلاح إلى أداة لزعزعة الاستقرار الاقليمي بحجّة الاختلاف على الحكم.
ما حدث في غزّة في السابع من اكتوبر قد أسقط مشروعيّة الازدواجيّة بين سلاح الميليشيات الايرانيّة والدّولة. حيث لم يتمّ استخدام هذا السلاح إلا وفاقًا لقواعد الاشتباك التي تمّ إرساؤها عبر المعاهدات والمواثيق الدّوليّة. إن كان بحسب اتفاقية فكّ الاشتباك بين سوريا وإسرائيل الموقعة في 31 أيّار 1974 بين سوريا وإسرائيل بجنيف بحضور ممثلين عن الأمم المتحدة والاتحاد السوفياتي ( سابقًا ) والولايات المتحدة الأمريكية. والتي تنصّ على ” أنّ إسرائيل وسوريا ستراعيان بدقة وقف إطلاق النار في البر والبحر والجو وستمتنعان عن جميع الأعمال العسكرية فور توقيع هذه الوثيقة تنفيذًا لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 338 المؤرخ في 22 أكتوبر 1973.” وفي لبنان وفاقًا لمندرجات القرار الدّولي رقم 1701 الذي صدر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع في 11 آب 2006. وكان الهدف من القرار هو حل النزاع اللبناني الإسرائيلي بعد حرب تمّوز 2006.
أمّا أحداث غزّة التي أثبت قصور الرّؤية المقاوِمَة بعد وضوح انعدام ميزان القوى في المواجهة الميدانيّة، ولاسيّما مع عدوّ مجرم لا رحمة في قلبه، إضافةً إلى ارتفاع عدد الشهداء والضحايا من قبل الفريق الفلسطيني أكثر بكثير من القتلى في صفوف العدو الاسرائيلي، فهذا الحدث بالذات كشف عدم جدوى هذا المشروع وأدواته. فإذا قمنا بمراجعة لنتائج هذا المشروع لوجدنا كيف تقلّص حجم فلسطين، وكيف تمّ ازدياد شراهة القتل عن هذا العدو الذي لم يوفّر الأطفال في غزّة، بل أضحى كلّ ما يتحرّك عنده هدفًا مشروعًا.
فما يطلب من الدّول العربيّة اليوم والعالم مجتمعًا من دعم لحركة حماس هو أمر محال بحسب المنطق الدّولي المؤسّساتي. لذلك الحلّ الأجدى يكمن بدعم الدّولة الفلسطينيّة التي حتّى الساعة يرفض المجتمع الدّولي الاعتراف بها؛ حتّى وصل الأمر بالرئيس الفلسطيني إلى القول في خطابه في الأمم المتحدة في 16 أيار 2023 في الذكرى 75 للنكبة : “بنآكل قتل كل يوم وبننذبح كل يوم، يا ناس يا عالم احمونا، ليش ما بتحمونا! لو كان عندك حيوان ما بتحميه ؟”
من هنا، على الدّول العربيّة أن تقف مجتمعة خلف مبادرة بيروت للسلام 2002 التي أرست حلّ الدّولتين، لتدعم السلطة الفلسطينيّة الشرعيّة التي نصّت عليها في البند رقم 28 من مقررات قمّة الرياض في 11/11/ 2023، وذلك لوقف شلال الدم الفلسطيني. وهذا ما سيؤدّي بدوره إلى سقوط المشروع المسمّى زورًا “محور المقاومة”، لصالح بناء دول سيّدة ومستقلّة وقويّة. وحاجة العدو الاسرائيلي اليوم الجيو -إقتصاديّة تدفعه للرضوخ للمطالب العربيّة التي يجب أن تتخطّى الاستنكار والإدانة نحو الموقف الشجاع والمواجِه حقنًا للمزيد من الدّماء الزّكيّة. لأنّ نقيض ذلك يكون في الدّخول بحرب أمميّة غير متكافئة القوى، ونتائجها ستكون المزيد من الضحايا الأبرياء. وعندها مَن يعرف إذا ما كانت ستتبقّى لفلسطين “فلسطينًا” لبناء فيها الدّولة الحلم ؟