عبده جبير ترك القلب في آخر اللعبة بدون تحريك

بقلم عقل العويط

مات صديقي المصريّ الأصيل، الروائيّ القاصّ عبده جبير في التاسع من شهر تشرين الثاني هذا (1948-2023)، بعد مرضٍ مجرمٍ في المخّ، تاركًا وراءه القلب بدون تحريك، ومواعيد الذهاب إلى آخر الزمان بدون وداع، ورضوان مستنكفًا عن عطلته، والفارس مترجّلًا عن حصانه الخشبي، مؤثرًا أنْ يبقى رجل العواطف الذي يمشي وحيدًا على الحافّة (اقتباسات من بعض عناوين كتبه)، متأكدًا من أنّ ودائعه ستبقى محفوظةً حيث تستحقّ، وهي سربٌ طليعيٌّ فذّ من المؤلّفات والمساهمات والخبرات والأيادي البيض يصعب التغاضي عنها أو نسيانها، مضمّخةً بعطور الطيبة القصوى والحكواتيّة الأليفة الغريبة والتجريب الصبور والذكاء العفويّ الحصيف.

عندما زرتُ القاهرة للمرّة الأولى موفدًا من “وكالة فرانس برس” لتلمّس ملامح القاهرة الثقافيّة، كان هو المرشد والدليل. وضع لي قبل أنْ أصل، لائحةً عرمرميّةً بالإشكاليّات الدقيقة والقضايا الثقافيّة الكبرى التي كانت تشغل مصر في ذاك الزمان (1988)، وأسماء المرجعيّات والشخصيّات التي ينبغي لي أنْ أحاورها. ثمّ زارني في الفندق بشارع الهرم، ليصطحبني في سيّارة أجرة ويقدّمني إلى صديق العمر المشترك، أحد أعمدة الثقافة في مصر الرسّام الكبير الدكتور عادل السيوي. عندما نقدتُ السائق أجرته، سأله عبده عن المبلغ الذي طلبه منّي، وعندما عرف أنّه قبض سعرًا مضاعفًا ومبالغًا فيه، باعتباري “سائحًا” و”خواجة”، انقضّ عليه وأوسعه ضربًا في الشارع العام أمام جمهورٍ واسعٍ من المارّة.

كان عبده جبير صاحب دربةٍ مركّبة ومعقّدة، تأخذ بالتجريب والحكي الروائيّ والسرد والحوار والمونولوغ الداخليّ والسيرة الذاتيّة والغيريّة والتوثيق والواقعيّة والتخييل والغموض وتشظّي الزمن والحيويّة البنائيّة والكثافة والمجاز والشعر، بما يضفي على موضوعاته وشخصيّاته وأمكنته (القاهرة وبور سعيد والفيّوم والكويت…) والأزمنة المتشابكة والمتداخلة حالةً ديناميّةً خلّاقة، كان يحبّ دائمًا، من خلال تغييب حبكتها الروائية، أنْ يصفها بالتجريب، حتّى دُمِغ أدبه عمومًا بهذا التوصيف الطليعيّ، الذي أفسح له مكانةً لائقةً في المشهد الروائيّ المصريّ خلال السبعينات وما بعدها.

كلّما كان يستلّ موضوعاته من الواقع، كان الراوي لديه ينزلق في الآن نفسه بدون تصنّع أو افتعال، إلى احتضان المناخ الروائيّ العام بجوٍّ آسر من التركيب البنيويّ الضبابيّ الغامض، فتتحوّل نصوصه من جرّاء ذلك التلاعب الماكر إلى أنْ تنمو كأعمالٍ مشهودة في صدارة الحداثة الروائيّة المصريّة والعربيّة.

كان عبده جبير صديقًا للشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم، وصديقًا في الآن نفسه لنجيب محفوظ، ويجب أنْ يُقرأ انشغاله بهذه الشخصيّات، وغيرها كثير، بعقلٍ متفحّص وقور، وكم كان منزله في شارع جريدة السياسة في منطقة السيّدة زينب، وهو شقّةٌ متواضعة، في مبنى متهالك، مقصد الأصدقاء والأدباء والفنّانين والمثقّفين والصحافيّين واليساريّين والأحرار من العالم العربيّ، وفيه كانت تُدار جلسات نقاشٍ غنيّة، محتدمة، مسترخية، صاخبة، عميقة، وراقية، على محبّةٍ جليلة، ورنينِ كؤوسٍ جمّة، وغناءٍ شعبيّ، صحبة الجلوس تربّعًا على الأرض بين الكتب والحكايات.

من هناك، من تلك الشقّة، كنا حينًا ننزل لنأخذ نصيبنا من “مرجعيّة” الفول والطعميّة لدى “الجحش”، الذي كانت شهرة مطعمه الشعبيّ في الهواء الطلق بمثابة نارٍ على جبل.

لن أنسى أنّ عادل السيوي اصطحبني يومًا بسيّارته المتقادمة الصغيرة لتمضية النهار في “زاد المسافر”، مضافة عبده جبير، في قرية تونس بالفيّوم.

إنّها “آخر اللعبة” يا عبده بن جبير، و”مفتاح منتصف الليل” فتح “السبيل” أمام شخصكَ، لكنه ترك “تحريك القلب” بدون تحريك. سلامي الى روحكَ!

اخترنا لك