بقلم طوني كرم
رحل عميد الدبلوماسيّة الأميركية هنري كيسنجر أول من أمس عن عمر يناهز الـ100 عام، لتبقى أفكاره وحنكته الدبلوماسيّة حيّة في لحظة دولية مفصلية، فرضها تجدد الحرب في منطقة الشرق الأوسط والتي جهد إلى إنقاذها خلال حرب أكتوبر 1973.
في ظروف مثيرة للجدل، حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1973 إثر ريادته التفاوضيّة ومهاراته التي أدّت إلى وقف إطلاق النار في فييتنام، قبل أن يتحوّل في عيون العديد من السياسيين والناشطين في مجال حقوق الإنسان إلى مجرم حرب.
برع مستشار الأمن القومي ووزير خارجية الولايات المتحدة في ظل حكومة الرؤساء ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، في ممارسة الواقعيّة السياسيّة، قبل أن يشهد خلال أيامه الأخيرة وبعد 50 عاماً على انخراطه المباشر في الصراع العربي – الإسرائيلي، سقوط «أمن» إسرائيل التي لطالما شكّل له كما لغيره في أركان الإدارة الأميركية هاجساً أساسياً، وتحديداً مع قيام حركة «حماس» بعملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر 2023.
لعب كيسنجر دوراً كبيراً في الشرق الأوسط إلى جانب إسرائيل. إنتهج سياسة شراء الوقت والإكتفاء بالحلول الجزئيّة لتحقيق الإستقرار وتخفيف الضغط الدولي عنها وتجنيبها الإنسحاب من الأراضي التي تحتلها، وذلك تبعاً لسياسة «الخطوة خطوة» و»الأرض مقابل شراء الوقت» وليس الأرض مقابل السلام بين العرب وإسرائيل. عمل على قيام نظام إقليمي يضمن إستقرار إسرائيل. فنجح إلى جانب الرئيس المصري أنور السادات بالتوصل إلى إتفاق سلام مع مصر، ضمن تحييدها وإبعادها عن الإنخراط في الحرب، كما فعل لاحقاً مع الأردن، وتنظيم الخلاف مع سوريا في الجولان، وذلك بعيداً عن تحقيق سلامٍ عادلٍ للفلسطينيين.
أمّا لبنان، فلم يكن في صلب جولاته المكوكيّة الهادفة إلى إنهاء حرب 6 أكتوبر 1973. وتردد أنه كان ينظر إليه على أنه دولة مهمّشة، ومشاكله أكبر منه، ما يحول دون قدرته في التأثير على أمن إسرائيل الذي يشكل هاجسه الأول في الشرق الأوسط. وذلك عبر الإيحاء بأن ما ينطبق على مصر وسوريا والأردن ينطبق بطبيعة الحال على لبنان.
زار كيسنجر لبنان، لكن زيارته أدّت إلى سوء فهم للبنان، بعد سوء التفاهم الكبير مع رئيس الجمهورية اللبنانية سليمان فرنجية، وذلك بعد أن ارتأى المسؤولون الأمنيون تحويل مسار طائرة الدبلوماسي الأميركي هنري كيسنجر إلى مطار رياق العسكري في البقاع، الممسوك أمنياً من الجيشين اللبناني والسوري، وتجنيب طائرته أي حدث أمني خلال مرورها في أجواء المخيمات الفلسطينية. وهذا ما دفع كيسنجر إلى القول لدى نزوله على درج الطائرة في مطار رياق العسكري وفق ما نقل عنه: «شو هالبلد يلّي ما بيقدر يستقبل وزير خارجية أميركا في عاصمته».
تحوّل هنري كيسنجر إلى مرجع لطلاب العلوم السياسيّة والعلاقات الدولية، حتى أضحت كتبه تدرس في أكبر الجامعات حول العالم. في رصيده ما يزيد عن 16 كتاباً، لم تخلُ فصولها من ذكره لبنان. في كتاباته عن الشرق الأوسط، إعتبر أن هناك نوعين من الدول: دول ثابتة وضروريّة، ودول غير ثابتة وغير ضرورية ويمكن الإستغناء عنها؛ وحلّ لبنان ضمن تلك الفئة التي يمكن الإستغناء عنها.
وفي هذا السياق، يعتبر الوزير السابق كريم بقرادوني في حديث لـ»نداء الوطن»، أن مقاربة كيسنجر للبنان تنحصر بمفهومه الجغرافي وتغفل مفهومه التاريخي ودوره الثقافي الفاعل في النهضة العربية.
وإلى جانب أمن إسرائيل، أرست فلسفة دبلوماسيّة كيسنجر في المنطقة سياسة أميركا الخارجية في الشرق الأوسط والتي تضع أمن إسرائيل في سلم أولوياتها، والإستفادة من الثروة النفطية، قبل البحث عن سبل مكافحة الإرهاب مجدداً.