رغيف المنقوشة

بقلم عقل العويط

لو كان لي أنْ أحتفظ لما بقي من حياة، برغيفٍ واحدٍ، وبنوعٍ واحدٍ من الطعام، لاحتفظتُ برغيف المنقوشة، وبالصعتر مخلوطًا بالسمّاق والسمسم والملح، ومجبولًا بزيت زيتون الكورة، أو بزيت الجنوب. علمًا لمَن لا يعلم أنّهما عندي واحدٌ أحد. وكلاهما يساوي الميرون.

هذا الموثَّق أعلاه، ثمنُهُ لا ثمن له. كتصعيد الحلم وصولًا إلى الاكتفاء بملء ذاته، زاهدًا، مترفّعًا، أنوفًا، شبعانًا على نبلٍ وفروسيّة. كالمثل القائل “فلّاح مكفي سلطان مخفي”.

وهو عندي، أي رغيف المنقوشة، الطعامُ كلّه. صبحًا وظهرًا وعشيّة. ويُغني عن كلّ شهوة طعام. وعن كلّ عنطزة. فلا حسد لأنّ الآخرين ينحازون إلى الكافيار وأفراد حاشيته. ولا غيرة البتّة. فالرغيف، رغيف المنقوشة، هو لي العرسُ. والجائزةُ. راجيًا – فقط – أنْ يُضَمّ إلى مائدته، إلى وليمته، صحنُ اللبنة البلديّة ممرّغةً بالزيت، وهذا خارجًا لتوّه من المعصرة. على أنْ يُوسَّع المكان، وهو وسيع، لحبّة الزيتون. وهذه، ما أطيبها مملَّحةً بعد رصٍّ، أو بدون.

ورغيفُ المنقوشة هو صنوُ الكتاب محبَّرًا. وهو الحبُّ ذكرًا وأنثى. وهو الحرّيّةُ سكرى من كونها مؤنّثةً وحرّيّة. وهو القمرُ، بل الجنسُ كاملًا، مرتقيًا إلى نشوته القصوى. ويُتعاطى بالجسم وبالروح. فكلاهما عندي واحدٌ أحد.

تناديني رائحةُ المنقوشة، وهي أشهى لديَّ من روائح الطعام مطلقًا، ولن أتردّد في طرد العطور الفرنسيّة جمعاء. تسبقني إليها ورقة النعناع، ومعها ضحكة البندورة، والخيارة. وقديمًا، وصغيرًا، كنتُ أقف وراء الشبّاك المفتوح بين حَجَرَين، وهو كالكوّة، أو أتسلّل إلى داخل فرن الأمّورة (القمّورة)، سيّدة جرجورة، جارتنا في القرية، تغنّي وتصلّي وتخبز، وحولها النسوة، والكلمات، فأرى إلى المنقوشة طازجةً كأنّها زمن العيد، كمثل الهديّة، والمعمول، والقمح المسلوق، وكجرس الكنيسة يلمع رنينه في لاوعي الروح.

والصعتر هو قضيّة. كالقضايا الوجوديّة. فهو مزاجٌ. وعروسٌ. ومذاقٌ. وشميمٌ. وهسيسٌ. ورنوٌّ. وأخذٌ بالحواسّ جميعها. فكيف إذا تلوّى على نارٍ، مخبوزًا على عجينةٍ مستديرة، مرتفخًا، مجمّرًا، يهتف له الجوع، وتسافر وراءه العين، وينطّ من أجله عصفور القلب، قبل أنْ تتهاداه الأسنان، ويُذاب في فمٍ وتحت لسان، وتتلمَّظ به شفاه.

لا أنتظر مناسبةً موضوعيّةً، أو احتفالًا، لأعلن انتمائي إلى منقوشة هذا الصعتر البهيّ (و/أو الزوباع)، جمهوريّةً أو إمارةً أو دنيا بأسرها، برّيًّا أكان أم لا، مخلوطًا أو نقيًّا، لبنانيًّا، أو أردنيًّا، أو فلسطينيًّا، أو سوريا، وهلمّ.

ولو قيل لي كرواسان، أو دوناتس، أو كنافة بجبن، أو كنافة بقشطة، أو… منقوشة (زعتر)، لاستنكرتُ السؤال، وأشفقتُ على سائله، وأجبتُ: منقوشة وبسّ، والباقي كلّه خسّ.


أصدرت لجنة التراث الثقاقيّ العالميّ غير الماديّ للانسانيّة (اليونسكو)، أوّل من أمس الثلثاء، قرارًا من مقرّها في بوتوسوانا، أدرجت فيه المنقوشة ضمن قائمتها على لائحة هذا التراث الثقافيّ العالميّ غير الماديّ للإنسانيّة.

اخترنا لك