بقلم نجم الهاشم
منذ بدأت حرب الإشغال والمساندة التي فتحها «حزب الله» في الجنوب، بعد عملية طوفان الأقصى، كان السؤال: لماذا لا تُقاتل حركة «أمل» إلى جانب «الحزب»؟ وبعدما أعلنت «الحركة» عن انخراطها في القتال صار السؤال: لماذا تقاتل؟ وكيف يمكن التوفيق بين الدور الذي يقوم به رئيسها ورئيس مجلس النواب نبيه بري على المستوى السياسي والوساطات مع «الحزب» وبين عودته إلى الحرب؟ وإلى أي مدى ستكون هذه العودة مكلفة له؟
منذ العام 1990 والإتفاق السوري الإيراني لوقف الحرب التي دارت على مدى عامين بين حركة «أمل»، التي كان يدعمها النظام السوري، وبين «حزب الله»، الذي كانت تدعمه إيران، خرجت الحركة من المعادلة العسكرية. أُعطِيَ الرئيس برّي حق الدخول إلى الدولة والمؤسسات، وأعطي «حزب الله» حصرية العمل المسلح. اختفت أسلحة حركة «أمل» وتوقّفت عملياتها المسلحة وأُحيلت قياداتها العسكرية إلى التقاعد، وبدا وكأنّها سلّمت بهذه النتيجة مرغمة لا راغبة. صحيح أنّها لم تعد تمتلك القدرة على العمل العسكري المنظّم كما كانت، خصوصا بعد انتهاء الحرب، ولكنّها احتفظت بسلاحها ولم تسلّمه إلى الدولة عند حلّ الميليشيات.
منذ ثلاثين عاما لم تجدّد «الحركة» هيكليتها العسكرية وترهّلت هيكليتها السياسية، بينما كان «حزب الله» ينمو ويتوسّع، بحيث بدا وكأنّ الحركة صارت في مكان آخر تكتفي بدعم ما يفعله «الحزب»، وبدا وكأنّ الرئيس بري بات يلعب ضمن المساحة التي يسمح بها «الحزب» وأمينه العام السيد حسن نصرالله الذي تربّى في حركة «أمل» وخرج من رحمها إلى رحم «حزب الله»، وقد فاق التلميذ معلمه. مع ذلك احتفظ برّي بحضوره السياسي وبرمزية موقعه وتاريخه، وحفظ له نصرالله هامش الحركة السياسية التي تلبّي احتياجات «الحزب».
إلى الحرب دُرْ
في حرب تموز 2006 لم تشارك «الحركة» في القتال الذي استمرّ شهراً كاملاً وتخلّله توغّل الجيش الإسرائيلي داخل لبنان قبل صدور القرار 1701 الذي قضى بوقف العمليات العسكرية. الدور العسكري الذي افتقدته «الحركة» عوّضه رئيسها نبيه برّي بالدور السياسي عندما تولّى التفاوض باسم السيد حسن نصرالله، ومن خلال حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، طلباً لوقف النار الذي كان يحتاجه «الحزب»، تماماً كما يحصل اليوم في حرب غزة حيث يتركّز طلب حركة «حماس» على وقف إطلاق النار من أجل العودة إلى تثبيت نتائج عملية «طوفان الأقصى» على الأرض ومنع إسرائيل من استكمال حربها التي وضعت لها هدفاً رئيسياً، وهو القضاء على «الحركة» عسكرياً والعودة إلى احتلال القطاع.
عودة «الحركة» إلى العمل العسكري كانت مفاجئة وشكّلت في انطلاقتها نكسة لها فبدت متعثّرة ومكلفة. منذ بداية شباط الحالي، «زفّت» الحركة خمسة «شهداء» سقطوا في غارات إسرائيلية على نقاط متقدّمة انتشروا فيها في بلدتَي بليدا وبيت ليف. قبلهم، سقط لها عنصر، علي داوود، في غارة في بلدة ربّ ثلاثين. لم تكد تنتهي من تشييع مصطفى ضاهر وعلي محمد في بليدا، حتى خسرت حسين عزام وحسن سكيكي وجعفر إسكندر.
بحسب المعلومات عمدت «الحركة» إلى نشر عناصرها في نقاط عديدة في الجنوب. واستقدمت لهذه الغاية عدداً منهم من مناطق مختلفة. بوادر هذه العودة العسكرية للحركة ظهرت في بيان وزعته في 8 كانون الثاني الماضي يتحدث عن قيام مجموعة تابعة لها بـ»استهداف تجمعات عسكرية إسرائيلية في مستعمرة كريات شمونة بصلية صواريخ حققت فيها إصابات مباشرة ردّاً على الإعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على القرى والبلدات الجنوبية». ولكن على عكس ما يفعله «حزب الله» ظهر وكأنّ الحركة تفتقر إلى أساليب «الحزب» القتالية ومتخلّفة عنه بحيث أنّها لم تصوّر مثلاً لا عملية إطلاق الصواريخ ولا الإصابات التي حقّقتها. فبدا وكأنّ البيان يحكي عن عملية غير مؤكدة أو أنّها لم تحصل.
نقص في الحرفية
على عكس «حزب الله» أيضاً، لم تُقرن حركة «أمل» بيانات نعي عناصرها بالقول إنّهم سقطوا «على طريق القدس» وإن كانت أسبغت عليهم تسمية المجاهدين وأبقت على التذكير بشعارها الحامل اسمها الكامل «أفواج المقاومة اللبنانية» لتمييزها عن مقاومة «حزب الله» الإسلامية. حتى في الصور التي وزّعتها لمقاتليها بدا وكأنّ الحرفية تنقصها بحيث أتت الصور مختلفة كل واحدة عن الأخرى، ولم تعتمد منهجية الوحدة في التطبيق العملي لتظهير نهجها العسكري الجديد.
يبدو من الصعب على الحركة أن تواكب مستوى الأفعال التي يقوم بها «حزب الله». فهي غابت عن العمل العسكري المنظّم وعن التدريبات منذ ثلاثين سنة، بينما انخرط «الحزب» في تدريب وتحديث ماكينته العسكرية البشرية والآلية، ويبدو أنّه من الصعب أيضاً على الحركة أن تعوِّض كل هذا الزمن الذي فاتها. وربما لذلك فهي يمكن أن تدفع الثمن غالياً في حال قرّرت المضي قدماً في العمل العسكري، إلّا إذا كانت تعتبر أن نهاية الحرب قريبة، وأنّ من أهدافها أن تسجّل موقفاً للتاريخ ليس إلّا.
على عكس «حزب الله» أيضاً فإنّ انخراط «الحركة» في الحرب، إذا كان جدِّياً يحتّم عليها اتخاذ إجراءات وقائية لم يظهر أنّها اتخذتها. فلا يعقل مثلاً أن يبقى الرئيس نبيه برّي مقيماً في مقر الرئاسة الثانية في عين التينة ومستمراً في عمله على رأس مجلس النواب، بينما يقبع السيد حسن نصرالله في مخابئ يعتبرها آمنة ولا يظهر في أي مناسبة. فكيف يمكن أن يوفِّق برّي بين دوره السياسي ودوره العسكري؟ فهو سبق أن أعلن أنّه في المعركة إلى جانب «حزب الله» وفي أول المدافعين عن القرى في حال اجتاز الجيش الإسرائيلي الحدود ولكن العمليات بدأت قبل ذلك.
برّي بين زمنين
بين نبيه برّي عام 1990 ونبيه برّي عام 2024 فرق كبير أيضاً. فرئيس حركة «أمل» الذي قاتل منذ العام 1979 الفلسطينيين والجيش اللبناني و»حزب الله» والحزب التقدمي الإشتراكي والحزب الشيوعي، لم يعد في عزّ قوته العسكرية وفي عزّ صباه وحيويته، وصار مقيماً في شيخوخته التي عكست أيضاً شيخوخة حركة «أمل» التي من الصعب أيضاً أن يعيدها إلى صباها. فنبيه برّي المقاتل لم يجد حرجاً في حرب الإخوة ضد «حزب الله» أن يتّهم الأخير بأنّه قتل من قيادات «أمل» العسكرية والسياسية أكثر مما قتلت إسرائيل. وسمى محمد سعد وخليل جرادي ومحمود فقيه وداود داود ومحمد حمود ومحمد جزيني وأبو جمال قائد القوات النظامية والمقاومة في آن معاً. فماذا تغيّر ومن تغيّر؟
انخراط «الحركة» في المواجهة العسكرية يطرح أيضاً تساؤلات حول التدريبات التي تجريها وكانت أعلنت أكثر من مرّة عن مناورات عسكرية مرفقة بصور قليلة. وتطرح تساؤلات أيضاً عن الأسلحة التي تحوزها، وهل هي الأسلحة القديمة التي استمرت تحتفظ بها منذ انتهاء دورها العسكري؟ أم أنها تحصل على أسلحة جديدة؟ وما هو مصدر هذه الأسلحة؟ وما هو حجمها؟ وهل هي لتنفيذ عمليات محدودة أم أنّها تمهيد لاستعادة دورها العسكري كاملاً؟ وهل تقوم بهذا الدور بالتنسيق مع «حزب الله» وبدعم منه؟ أم بشكل مستقل عنه؟ وبالتالي، هل يقبل «الحزب» بهذه العودة وبهذا الدور؟ وهل يتنازل عن سقف اتفاق دمشق عام 1990 ويقبل بالتعددية العسكرية؟ خصوصا أنّ «الحركة» لم تُماشِ «الحزب» في حربه في سوريا ولا في الإعلان عن أن حربها هي من ضمن استراتيجية وحدة الساحات، أو أنّها على طريق القدس.
بعد سقوط عناصر «الحركة» وجّه الرئيس بري تحية إلى «جماهير أفواج المقاومة اللبنانية»، وأكّد أنّ الحركة «أمام «حزب الله» في الدفاع عن كل حبة تراب من لبنان، ولكن في هذه المعركة ضمن إمكاناتها العسكرية». هل هذا الإعلان يعني أنّه مقدمة لانخراط أوسع في الحرب؟ أم للعب دور مرحلي في هذه الجولة من القتال بالتنسيق مع «الحزب»؟ ولكن يبدو أنّ غرفة عمليات «الحركة» مستقلّة عن عمليات «الحزب». وهي تعود إلى العمل العسكري بالتزامن مع عودة أطراف أخرى لم يُكتب لمحاولاتها النجاح. من «الجماعة الإسلامية» و»قوات الفجر» التابعة لها، إلى «كتائب القسام» التابعة لـ»حماس» و»سرايا القدس» التابعة لـ»الجهاد الإسلامي» التي نفّذت عدة عمليات انتهت بخسائر فادحة في صفوفها.
بين المطرقة والمسدس
العناصر الثلاثة الذين خسرتهم أمل في بيت ليف من مواليد الأعوام 1996 و1991 و1994، أي انهم من الأجيال التي ولدت بعد تسليم «الحركة» بإحالتها إلى التقاعد عسكرياً. وهذا يعني أنها تستكمل استعداداتها العسكرية بتدريب عناصر جديدة. وهي تختلف عن «حزب الله» الذي ينعى عناصر تحت سن العشرين، مع عناصر تجاوزوا الأربعين من العمر وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا ضمن مجموعات قتالية محترفة ذات تدريب عال في وحدات مخصصة لعمليات نوعية.
ربّما على الرئيس برّي أن يختار اليوم بين أن يكون الوسيط الإلزامي في عملية المفاوضة حول وقف العمليات العسكرية ويستقبل الموفدين الدوليين، ومن بينهم آموس هوكشتاين، وبين أن يكون منخرطا في العمل العسكري.
ولا يعقل أن يعود إلى زمن الميليشيا بينما يبتعد عن المهمة الأساسية المنوطة به وبالمجلس النيابي، وهي دعوة المجلس للإنعقاد في جلسات ودورات متتالية لانتخاب رئيس للجمهورية، وبينما تتجدّد المطالبة بتطبيق القرار 1701 ومعه القرار 1559 القاضيين بنزع سلاح «حزب الله». وبالتالي عليه أن يختار بين أن يمسك بمطرقة مجلس النواب وبين أن يحمل مسدسا أو رشاشا أو صاروخا.