المارونيّة رسالة حياة للعبور إلى الحياة الأبديّة

بقلم د. ميشال الشمّاعي

المارونيّة ليست طائفة أو مجرّد مذهب. إنّها رسالة حضاريّة مشرقيّة. عمادها الحرّيّة والإنفتاح والإبداع والديمقراطيّة. وما ميّز المارونيّة أنّها شكّلت طبائع شعب، لذلك نجحت بولادة “الشعب الماروني”. هذا الشعب الذي خرج من ظلام الإحتلال، فأخرج معه مُجَاوِرِيه كلّهم. ونجح بتأسيس الكِيان الذي شكّل الإطار القانوني والمعنوي حيث عاش قناعاته، وحمل هويّة حضاريّة، ثبّتها في ميثاق مكتوب مع مَن ارتضى مشاركتهم هذه الأرض، ليكون هذا الشعب بحدّ ذاته تلك الرّسالة الإنسانيّة التي تحمل لبنان إلى العالميّة، وتحمل معها هذا الشّعب في رحلة عبوره إلى الحياة الأبديّة عبر نمطيّة عيش فريدة اتّخذها في هذا الوطن.

المارونيّة تاريخ حيّ لن يموت

ألف وأربعمئة سنة والمارونيّة ما زالت حيّة على رغم الإضطهادات التي عانتها. ما من شعب في العالم عانى ما عاناه الشعب الماروني وما زال مستمرًّا وصامدًا في أرضه. إنه لسرٌّ عجيب!

إنّ في ذلك وحي وإرادة إلهيّة. لا يمكن أن يفهمها أيّ منطق بشري لأنّها تُفهَم فقط بوحي الإيمان الماروني. هذا الإيمان الذي ارتبط بشكل لصيق بجغرافيّة وجوده في هذه الأرض المقدّسة. فالموارنة لا وجود لهم من دون لبنان. ولا وجود للبنان من دون الموارنة. وعلى رغم الإضطهاد والتهميش والمذلّة والإبادة التي تعرّضوا لها في وطنهم جبل لبنان، إلّا أنّ تمسّكهم بإيمانهم، وعيشهم رجاءهم المسيحي، وم.ق.ا.و.م.ت.ه.م المسيحيّة شكّلت ثالوث بقائهم واستمرارهم في الوجود.

هذا هو فعل الوجود الذي استحقّه الموارنة بفعل تجذّرهم في هذه الأرض، وبفعل إيمانهم برسالتهم السماويّة، حتّى توصّلوا مع شركائهم إلى تثبيت أسسهم الوجوديّة في صلب الكِيَانيّة اللبنانيّة التي تقوم على تقديس ثالوث الحرّيّة والإنسان والأرض. وهذا الفعل بحدّ ذاته هو ما أمّن لهم تلك الهويّة المجتمعيّة المتميّزة عبر العصور. ومكّنهم من تخطّي فعل التحلّل في القوميّات والإيديولوجيّات العابرة، وثبّتهم في الوجود كفاعل حضاريٍّ وليس كمفعول به.

المارونيّة وجود عقائدي

هذا الوجود تكرّس عقائديًّا على القاعدة الخلقيدونيّة التي حملها الراهب مارون القوروشي. وشكّل بنمطيّته النّسكيّة خارطة الطريق المارونيّة للخلاص. فأكبَّ الموارنة على تنظيم شؤونهم الأرضيّة من تلك المنطلقات الرّوحيّة. وحدهم عاشوا قناعاتهم بتطبيقهم الديمقراطيّة في صلب كنيستهم، فانتخبوا بطريركهم انتخابًا، وتابعوا تنظيم شؤونهم الحياتيّة، وأيقنوا أنّ إستمرارهم في أرضهم هذه التي باركها ربّ القوّات بزيارته جنوبها، وبذكره لأرزه في جبالها. هذا الإستمرار مرتبط بتوأمة في اليدين ما بين المسبحة الورديّة بيد والبندقيّة المقاوِمَة في اليد الأخرى.

وهذا ما شكّل ثنائيّة دفاعيّة انبثقت من تناسق روحيٍّ إيمانيٍّ ووجوديٍّ أرضيّ. فاتّخذوا من الجبل الذي أعطي مجده لهم، ذلك الحصن المنيع لعقيدتهم التي ارتبطت بالأرض. فالماروني من دون الأرض المارونيّة، والجبليّة بالتحديد، يتهدّد وجوده ويصبح عرضة للتحلّل في العولمة المجتمعيّة الجارفة. هذا من دون الحديث عن تلك الثورة الرّقميّة الماحقة التي شيّأت الإنسان وسلخته من إرتباطه بجذوره الأرضيّة. فبات الشعب المارونيّ برمّته، كغيره من الشعوب التي ترتبط بالأرض، مهدّدًا في وجوديّته هذه.

مميّزات الشعب الماروني وديمومته

من المميّزات التي طبعت الشعب الماروني وهذا التراث الحضاري تلك القدرة التنظيميّة المؤسّساتيّة التي حوّلت كنيستهم من مؤسّسة روحيّة دينيّة تُعنى فقط بالشؤون الروحيّة إلى مؤسّسة كِيَانيّة استطاعت تأمين أدنى المقوّمات التنظيميّة التطويريّة التأهيليّة لهذا المجتمع. وهذا ما تجلّى في مجمع اللويزة في عام 1736 حيث نجحت الكنيسة بنقل المجتمع الماروني ومعه اللبناني بالكامل، من عقل يسوده الفكر الإقطاعي إلى عقل تحرّريّ ثورويّ فجّر طاقاته الفكريّة العلميّة التعلّميّة من تحت سنديانات جبل لبنان، حتّى صار لبنان كلّه في موضع حضاريٍّ متقدّم.

وما أمّن ديمومة الوطن اللبناني الذي نجح الموارنة مع شركائهم في بنائه هو تلك القدرة التفاعليّة السلميّة مع الآخر على قاعدة قبول إختلافه من دون الخلاف معه. وهذه المسألة هي في صلب الحالة التكوينيّة اللبنانيّة التعدّديّة التي تصونها الحرّيّة الشخصيّة الكيانيّة الإنسانيّة المسؤولة. وهذه القاعدة لا تسود إلّا إذا التزمت بأدنى قواعد الإحترام الإنساني – الإنساني عبر نشدان الحقيقة مهما كانت صعبة، لأنّ المارونيّة ومؤسّسها القديس مارون وتلاميذه الذين أرسوا نهجه النّسكي هم أبناء الحقّ وما تحرّروا إلّا لأنّهم كذلك. وبتحرّرهم هذا استطاعوا أن يحرّروا أوّلًا جبل لبنان معهم، ليتمكّن خلفاؤهم أمثال البطريركين حويّك وعريضة أن يدخلوا المكوّنات الحضاريّة التي تتعاضد معهم كِيانيًّا، ولا سيّما المكوّن الشيعي، وأمّنوا لهم هذا الحقّ الكِياني الذي سمح لهم بعيش حرّيتهم وقناعتهم المجتمعيّة – الهويّاتيّة كما لم تؤمّنها لهم أيّة دولة عربيّة كبرى، سواء أكانت سوريا الكبرى أم دولة عربيّة أم غيرها من الدّول.

هذا كلّه أمّن ديمومة المارونيّة ذات النّهج الحياتي النّسكي – الكياني وحرّرها من الإيحاءات والإلتزامات السوسيولوجيّة – القوميّة وحتّى تلك الإيديولوجيّة التي تعبر الحدود وتتعارض مع الطبيعة الإنسانيّة – الإنسانيّة والمجتمعيّة – الحضاريّة. وهذا ما أمّن أيضًا تلك الكرامة الإنسانيّة للشخص البشري مهما كان انتماؤه الحضاري.

الشهادة المارونيّة حتّى ا.ل.ا.س.ت.ش.ه.ا.د

ذلك كلّه، ما كان ليتحقّق لو لم يرسِ المؤسّس القدّيس مارون نهج الشهادة للحقّ والحقيقة الذي وصل إلى ا.ل.ا.س.ت.ش.ه.ا.د مع التلاميذ الـ350 الذين صاروا قديسي هذه الكيانيّة. وبدورهم أرسوا نهج الشّهادة للحقيقة الذي استمرّ إلى يومنا هذا عبر كوكبة من الشهداء المسيحيّين المؤمنين بلبنانيّتهم الذين ثبّتوا هذه الكيانيّة المارونيّة التي تحوّلت بفعل ا.س.ت.ش.ه.ا.د.هم، وبفعل النهج الماروني الحياتي النّسكي الذي أرساه الأب المؤسّس، القديس مارون وتلاميذه الشهداء، والرهبان القديسون حتّى يومنا هذا. فهذا النّهج هو الذي صنع لبنان 1926 وثبّته في العام 1943. وهذا النّهج عينه هو الذي أسّس للبنان الجديد الذي سيولد حتمًا مهما طال زمن هذه الولادة الكيانيّة.

وفي نهاية هذا المطاف الذي بلغ من العمر أكثر من ألف وأربعمئة سنة من النضال والم.ق.ا.و.م.ة والنّسك والصلاة، نجحت المارونيّة منذ زمن المؤسّس القديس مارون وتلاميذه والبطريرك الماروني الأوّل مار يوحنّا مارون بالتحوّل إلى رسالة حياة لأنّها انطلقت من الحياة للحياة، وليس من الحياة للموت، بهدف العبور إلى الحياة الأبديّة.

وهذه الرسالة التي أناطها الرّبّ والتّاريخ والوجود بالمارونيّة لتكون ذلك العامل الفاعل والمبدّل في محيط، إستطاعت أن تخرج منه إلى العالميّة والأمميّة عبر انتشار مارونيّ كيانيّ ثبّت نفسه ونقل المارونيّة عبر تسطيره أنجح التّجارب في العالم. مع العلم أنّ هذا المحيط ما فتئ يبحث عن بناء دولة عنصريّة قوميّة، لمَن يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار، ولعمق حيويّ يسعى ليل نهار ليتواءم مع كيانيّة الوجود المسيحي الحرّ في وطن الـ10452 كم2 حيث يعيش حرّيّته المفقودة في ديكتاتوريّات عسكريّة بائدة، أو في إيديولوجيّات عبر التّاريخ عنها. فهل سيجرؤ هؤلاء حيث لم يجرؤ آخرون؟

اخترنا لك