البطريرك صفير شفيع خلاصنا

بقلم د. ميشال الشمّاعي

“لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ”. وهكذا هو كان. منذ البدء له الكثير. يكفي أنّ مجد لبنان أعطي له. ولقد كان أمينًا على القليل الذي بقي من لبنان بحمى القوّة الضامنة للوجود المسيحي الحرّ، فكان له أن أعطي مجد ال 10452 كم 2 يوم قاد المقاومة اللبنانية السياسيّة بدءًا بذلك النّداء الأيلوليّ الذي أدخله التّاريخ. وقال ما قاله. فأخرج المحتلّ في 26 نيسان 2005. ولو طاعه أبناؤه لما كنّا اليوم هنا، ولما كان المجتمع الدّولي أصدر القرارين 1680 و 1701. ولما كان ذلك السابع من أيّار، اليوم المهين للسيادة الوطنيّة حيث احتُلَّت تحت ذريعة الدّفاع عن أمن سلاح المقاومة الاسلاميّة في لبنان.

إنّه السابع والسبعون الذي حفر اسمه بحروف من ذهب في سجلّات لبنان الجديد. البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الذي غيّر مسار لبنان من وحدة المصير مع البعث السوري الذي لا يشبه تاريخ لبنان الأجداد، صوب لبنان الحرّيّة. لقد أعاد تصويب البوصلة الكِيانيّة. وهنا بالتحديد أهميّة هذا البطريرك كشخصيّة وطنيّة طبعت هذا الوطن. لقد جسّد تاريخ لبنان الحرّيّة بمسيرة رفض خلالها الانصياع أو الخضوع أو حتّى المهادنة. لقد جسّد نهج المواجهة المستمرّة لأنّه مقتنع بأنّ الباطل لا يمكن أن ينتصر على الحقّ.

وفي قناعاته هذه عيش للقيم المسيحيّة التي علّمنا إيّاها “المعلّم”. لقد استطاع أن يصبر إلى المنتهى ليخلّص لبنان. لكنّ الذين تأمّل بأن يواكبوا مساره الإيمانيّ هذا قد خذلوه. ورؤوا في لبننتهم رافضي لبنانيّتهم نهجًا يفوقه وطنيّة. لكن سرعان ما أثبت التّاريخ المعاصر أنّه كان على حقّ وهم جميعهم على خطأ. ولعلّ ما نعيشه اليوم هو نتيجة لعدم الايمان بإلهامات الرّوح التي كان يعيشها البطريرك صفير في كلّ لحظة من حياته.

ميزة هذه الشخصيّة الهادئة حتّى الصمت المقدّس أنّها عرفت كيف تتكلّم بصمت، وبإيماءات الباهمَين الدّائريّة. تلك الحركة التي امتاز بها والتي حيّرت الكثيرين. معه ومنه تعلّمنا ماذا يمكننا أن نعطي لوطننا لا أن ننتظر ماذا بإمكان وطننا أن يعطينا. وهو الذي أعطى لبنان الكثير. أذلّوه. وأهانوه. حتّى إنّهم صفعوه. لكن الأهمّ في كلّ ما تعرّض إليه أنّه غفر لأبنائه الخطأة، وعاد فاحتضنهم بعد سنين. لكنّ تاريخ هؤلاء الأسود عاد فاقتادهم إلى خنوع مغلّف بالتّفاهم الوطني. فكان تفاهمهم كلّ شيء إلّا وطنيًّا. لا بل أكثر من ذلك، ما اعتبروه تفاهمًا، تبيّن أنّه صفقة في أسواق النّخّاسين، استعبدوا أنفسهم بأنفسهم للشرّير.

هذا البطريرك الذي حملنا بصلاته، أعلن حقيقتنا عملًا بمبدأ قول الحقّ. وهكذا حرّرنا عندما قال: نحن الذين أنشأنا لبنان ولن نقبل بأن نكون فيه ضيوفًا. فثبّت شعار لبنان وطننا وفيه باقون. قولًا وفعلًا. مواقفه الوطنيّة هذه هي التي صقلت صلابتنا، وأعطتنا الدّافعيّة إلى الاستمرار، وأكثر من ذلك، على الاستقرار في هذا الاستمرار في أعتى الأوقات، وحتّى تحت سياط الجلّادين. وما ثياتنا في مواقفنا إلّا نتيجة لثباته في مواقفه.

البطريرك صفير الذي ولد في 15 أيّار من العام 1920 ورحل في 12 منه في العام 2019. هو الذي عبر قرابة القرن من الزّمن من شهر نوّار وإليه، حيث لبنان المكرّس للعذراء مريم رابض في قلبه. ويقيننا اليوم بعد خمس سنوات على رحيله بعيدًا منّا في الجسد، أنّه ما زال ذلك السراج الموضوع على منارة الوطن. من نوره نهتدي. من عزمه نتزّود. من صلابته نقتدي. ومن إيمانه نتنوّر. وكلّنا إيمان أنّه الساهر مع قديسي هذا الوطن على ديمومته. ولا خوف على وجودية لبنان طالما بطاركته سائرون على درب القداسة. ولن يكون الدوّيهي آخرهم.

مجد لبنان الأرضي أعطي له. ومن له هذا المجد سيعطى ويزداد. لذلك، مجد السماء سيكون بانتظاره. ويقيننا انّه سينال إكليل القداسة. لأنّ من يحبّ كثيرًا يستطيع بحبّه أن يشفع لشعبه فيغفَرُ له كثيرًا. أمّا مَن لا يحبّ شعبه فلن يغفر له ولشعبه أبدًا. نعم لقد أخطأ بعضنا بحقّ لبنان. لأنّه لم يعرف كيف يحبّه كما أحبّه البطريرك صفير. ولعلّ هذا ما أوصلنا إلى جهنّمهم.

يقيننا أنّ السيرافيم والكاروبيم يرفعون أجواق التّرنيم مع البطريرك صفير في هذا الشهر المبارك ليخلص لبنان. ولكن إن لم نعمل له كما عمل هو نفسه لن يكون لنا نصيب من الخلاص المرجوّ. إلّا أنّ يقيننا أنّ قرابين شهادتنا التي لم تتوقّف بعد رحيله، معه ومع كلّ الذين سبقونا، ومع اجواق القديسين هي كفيلة بأن تلهمنا بالسير على خطاه حتّى يخلص لبنان. ومَن لديه سابع وسبعون في السماء السابعة فليؤمن سبعين مرّة سبع مرّات أنّ وطنه حيّ وليس في جيوب صغار النّفوس. ولا بدّ أن يخلص. وسيخلص.

اخترنا لك