بقلم د. ميشال الشّمّاعي
لم يكن العامل الديموغرافيّ يومًا عاملًا ثابتًا. إنّما قمّة التحوّلات كانت عبر الديموغرافيا. لكن المفارقة الكبرى تكمن في الحالة اللبنانيّة. فقضيّتنا تختلف عن باقي الأعراف التي شهدناها عبر تاريخ البشريّة. ولا يعني ذلك أنّ مقاربتنا للقضيّة اللبنانيّة، كوننا لبنانيّين كيانيّين، تأتي من منطلقات عاطفيّة، أو نابعة من رومنسيّة سياسيّة شاعريّة بعيدة كلّ البعد من #عالم السياسة والواقع.
في استعراض بسيط للواقع الديموغرافي اللبناني نلاحظ كيف ارتبط تكوين الدّولة اللبنانيّة كمؤسّسة بالعامل الديموغرافي. فلقد كانت هويّتها درزيّة يوم كان الموحّدون الدّروز قادة فيها. وعندما دخلت البشارة المسيحيّة وكثر عامل التنصّر انتقلت الهويّة المؤسّساتيّة إلى المكوّن الحضاري المسيحي.
لكن ما يجب التنبّه إليه في هذا المسار التاريخي أنّ هذا العامل لم يتأثّر بالمدّ الإسلامي الذي عرفه لبنان، ولاسيّما في مرحلة الوجود العثماني الذي كان وجودًا صديقًا لبعض المسلمين، تمامًا كما كان وجود المستعمر الفرنسي صديقًا لبعض المسيحيّين. وذلك منبثق من الرابط الحضاري المبني على صلة القربى الدينيّة.
ولم يجد الامتداد الاسلامي بهويّته السنّيّة بابًا لتغيير وجهة الهويّة اللبنانيّة، برغم تمدّده الديموغرافي. ولعلّ الفضل يعود في هذه المسألة إلى دولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي نجح بإيقاف العدّاد الديموغرافي في اتّفاق الطّائف. وتكريسه الوفاق الوطني مضافًا إلى ميثاق الصلح – الخوري. لئن لم تخفِ بعض القيادات الرجعيّة، صاحبة الأفكار البعثيّة والمتعوربة عبر التّاريخ، نيّة أسلمة الحجر في حال تعذّر أسلمة البشر.
وهذا ما أنتج وحدة حال كِيانيّة تجلّت بأبهى حللها في ثورة الأرز في 14 آذار، يوم تمّ تجاوز هذه العقبة بين أبرز ثلاثة مكوّنات حضاريّة لبنانيّة. ووقتذاك رفع شعار “لبنان أوّلًا”. أمّا وبقي المكوّن الحضاري الشيعي الذي لم يجد له امتدادًا إقليميًّا إلّا مع قيام الثورة الاسلاميّة في إيران وتصديرها إلى لبنان.
ولتنجح هذه الثورة في لبنان، نجحت منظّمة الحزب بنقل جزء كبير من المكوّن الحضاري الشيعي من الجعفريّة الشيعيّة اللبنانيّة إلى الصفويّة الشيعيّة الفارسيّة. فتمّ فرض ثقافة جديدة في المجتمع الشيعي اللبناني لا تمتّ بأيّ صلة إلى واقعنا، واعتنقت هذه الحالة مبدأ الغلبة الديموغرافيّة ظنًّا منها انّها ستستطيع يومًا ما أن تقلب المعادلة الكيانيّة بالواقع الديموغرافي الذي نجحت بفرضه طوال 40 سنة. لا بل الأكثر من ذلك عملت بالتوازي على عمليّة تغيير جغرافيّ عبر شراء أراضٍ بطرائق مشبوهة، ولأهداف واضحة مفادها الخرق الديموغرافي في البيئات الصلبة دبموغرافيًّا.
هذا واقع صحيح لا يمكن لنا أن ننكره. ولكن الاعتراف بهذه الحقيقة لا يعني أنّها تحوّلت إلى ثابتة ستشكّل بالضرورة القصوى عمليّة فرض أمر واقع كيانيّ جديد على الصيغة اللبنانيّة. وهنا بالتحديد الاشكاليّة الكبرى التي لم يفقهها بعد هذا العقل الرّجعي البائد. في زمن بات العالم فيه بأكمله رهن تطوّر علمي أو تكنولوجيّ قد يجهز على تقدّمه الديموغرافيّ العددي بلحظة واحدة، يأتي هذا العقل ليدحض التعدّديّة الكيانيّة في بوتقة عدديّة تحت ذريعة إلغاء الطائفيّة.
إنّ التركيبة السياسيّة اللبنانيّة اليوم هي قائمة على الواقع الطوائفيّ المجتمعيّ. ولا يمكن أن تنتقل إلى تشكّلات تقوقعيّة صلبة آحاديّة. وإلّا اضطررنا للعودة إلى عمليّات فرز طائفيّة – إثنيّة إن لم يكن بالمال السياسي فبالبندقيّة الطائفيّة. وهاتان مسألتان مرفوضتان جملة وتفصيلًا. يوم يصبح للمسيحيين لبنانهم، وللمسلمين لبنانهم ولغيرهم لبنانهم لا يعد لبنان لبنان .
فالواقع الديموغرافي معطوفًا على الواقع التعدّدي الحضاري اللبناني لا يمكن أن يكون هو بذاته الفاعل والمؤثّر في هويّة الدّولة، بل يجب أن يكون مرآة صيغة هذه الدّولة الكيانيّة، وشكل نظامها السياسي.
وإن تبحّرنا أكثر في المسار الممانِع الذي أطبق فعليًّا على البلاد بعد انقلاب السابع من أيّار 2008، والأكثر إن عدنا إلى مرحلة الوصاية السوريّة التي امتدّت من العام 1990 وحتّى العام 2005، نفهم لماذا هذان النّهجان المتطابقان الحاكمان عملا على تعطيل اللامركزيّة العميقة التي أقرّها اتّفاق الطائف على حساب تغليب المركزيّة العقيمة، وصولًا إلى تفريغ الدّولة العميقة عبر السيطرة عليها بالكامل. وما كان ذلك ليتمّ إلا بعد الاطباق على سائر المكوّنات اللبنانيّة إمّا ترغيبًا كما حصل في 6 شباط 2006، وإمّا ترهيبًا كما حصل في 7 أيّار 2008.
لا يخافنّ أحد على الديموغرافيا المسيحيّة بالتحديد، فمسارها مستقرّ غير متقهقر، كما نجح محور الممانعة عبر إعلامه الأصفر بغرس هذا الخوف في النّفوس الضعيفة. فالنموّ الديموغرافي المسيحي لا زال محافظًا، لا بل تقدّم في نموّه، أكثر من المراحل السابقة. فيما النموّ الديموغرافي لسائر المكوّنات تختلف مقاربته.
واضح انّ المكوّن الدرزي نجح بتموضعه جغرافيًّا بتحصين ديموغرافيّته، ولو اضطرّ أحيانًا إلى استخدام السلاح لذلك، فهو استخدمه كما حصل في ذلك السابع من أيّار، وفي شويّا وقبرشمون وغيرها وغيرها من المرّات. بينما النموّ الديموغرافي الشيعي المطرد يكفي مراقبة خطاب البعد الإيراني الذي نجح باختطافه إليه لنفهم كلبنانيّين تعدّديّين طبيعة الثقافة العدديّة.
وهذا ما أعطى هذا المكوّن تفوّقًا ديموغرافيًّا على سائر المكوّنات، حتّى وصل به الأمر إلى المطالبة بما اصطلح على زرعه في الأفهام والعقول بنظام ” المثالثة” في الحكم؛ أي اقتسام السلطات بين المسيحيين والسنّة والشيعة مثالثة. فيكون بذلك قد أجهز ديموغرافيًّا على المكوّن الدّرزي تمهيدًا لممارسة المثل في المستقبل على المكوّن المسيحي.
نحن اليوم أمام واقع حضاريٍّ لا يمكن غضّ النّظر عنه. فطالما السلاح موجود عند مَن يقود هذا المكوّن، وطالما يربط وجود هذا السلاح بوجوديّته الحضاريّة لا يمكن لنا كلبنانيّين الرّكون إلى مآربه، ولا يمكن لنا حتّى أن نركن معه في الموقع نفسه، لأنّه سينقضّ علينا عندما تسنح له أقرب فرصة بذلك. وإن لم نتّعظ من تجارب التّاريخ فنحن حتمًا لا نستحقّ المستقبل!
لذلك كلّه، القضيّة اللبنانيّة لن تكون يومًا رهنًا بالعامل الديموغرافي لأنّها قضيّة إنسان وحضارة وكيان وليست قضيّة أرقام وعدّدات وكيانات. ولترجمة هذا الأمر واقعًا سياسيًّا على الأرض، إمّا أن ننتقل فورًا إلى تطبيق اللامركزيّة المنصوص عليها في الطّائف، وتوسيعها إلى الحدّ الذي تسمح به لكلّ مكوّن حضاريّ بأن يعيش ذاته الحضاريّة في صلب الكيانيّة اللبنانيّة بين دفّتي الـ10452كم2، وإمّا جبالنا تكفينا مع الذين يؤمنون بالحقيقة اللبنانيّة لنعيش فيها ذاتًا واحدةً كِيانيّةً أصيلة تعدّديّة، تنقض وتنقص مَن أخرج ذاته بذاته إلى أن يعود عودة الابن الضال.