بقلم د. عايدة الجوهري
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
لماذا إثارة مشكلة الحجاب، وهي مشكلة دينية موكل البحث والبتّ فيها، إلى الراسخين في العلوم الفقهية، لا إلى عموم البشر؟
إنّ الخوضَ في الإشكاليات التي تطرحها ظاهرة الحجاب مباح، ليس لأنّ الجدل حول مشروعيّته الدينية من عدمها ما زال دائراً، ولم يُحسَم بعد، بل لأنّ هذه الظاهرة تطرح أسئلة فلسفية، تتجاوز مفاهيم الشرع وفروضه، ومفهومَي الحلال والحرام، لتتناول ماهيّتَي الذكورة والأنوثة، والفروقات بينهما، الآيلة إلى الاعتقاد بنقصان المرأة، واكتمال الرجل وتفوّقه عليها، عقلياً ونفسياً ووجدانياً، وحقّ هذا الذكر المتفوّق، في التحكّم بالمرأة وإدارة حياتها، باسم المقدّس الذي جعله قواماً عليها، والانطلاق من أجل تبرير استراتيجيات العزل والسيطرة، من كون المرأة، وبالإضافة إلى نقصانها الماهوي، كائناً مثيراً، ومفتناً، وقد يؤدي الافتتان به إلى اختلالات اجتماعية، لا تُرضي الله ولا المجتمع، والأمثل لدرء المفاسد والاختلالات حجبه عن الأنظار كلياً أو جزئياً.
بالإضافة إلى الأسئلة الفلسفية الجندرية التي تطرحُها ظاهرة الحجاب ومشتقّاتها، تبرز الأسئلة السياسية، فهذه الظاهرة لازمت منذ قرون النظام العبودي (الأشوري والبابلي)، ثم الإقطاعي، الممثَّل في شرقنا بالحكم العثماني، والذي فرض النقاب بالقوة على النساء. وهو بدأ بالانحسار في البلاد العربية، ابتداءً من عشرينيات القرن الماضي، عاكساً شيوع قيم الحداثة والنهوض والتحرّر.
والحال، هو عاود الظهور ابتداءً من أواخر سبعينيات القرن ذاته، مواكباً هذه المرّة صعودَ الخطاب السلفي النكوصي، وخفوت الخطاب التنويري الحداثوي، والمحاولات الحثيثة للانقلاب على منجزات الحداثة السياسية والاجتماعية.
وما لا يُمكن إنكارُه، أنّ الردّةَ الدينية بمجملها، عبّرت عن فشل الدولة الوطنية في حماية الديمقراطية، والحريات العامة، وفي المحافظة على حقوق الناس المدنية والسياسية والاقتصادية، وفي التأسيس لمفهوم «المواطنة» على غرار الدول الغربية، وفي إيلاء أهمية مركزية للنهوض الاقتصادي وللعدالة الاقتصادية… فانكفأ الناس على هوياتهم الفرعية الأولية، الدينية والطائفية والإثنية، والقبلية، والعائلية.
أولاً: رمزيّة الحجاب
إنّ الحجاب ليس رداءً، يتساوى بوظيفته مع كل الأردية، فهو رداء تفرضه السلطة الحزبية أو المجتمعية، أو العائلية، بقوة الإغراء بالثواب، أو التهديد بالعقاب، أو بقوة التهديد بالعزل المجتمعي، والاحتقار.
إنّ السلطة التي ترعاه، وأياً كانت هويتها، تُضمر من خلال الحجاب غير ما تُفصح عنه، من أنّه أمر ديني تعبُّدي، يُضفي على حاملته، مسحةً روحية، علوية، وجدانية، طهرانية، تفتقدها بدونها، فتغفل حاملته حينها منظومة الدلالات والوظائف التي تحفّ به، والمتّصلة برؤية خاصّة إلى كينونة المرأة وأدوارها وخصالها، وحقوقها وواجباتها، تلك المنظومة التي بنتها وصاغتها، عبر التاريخ، الأيديولوجية الذكورية، التي تصطبغ في كل مرة بصبغة ثقافية محلية مميّزة.
في هذا الإطار، يتحول الحجاب إلى علامة، والعلامة رمز، هي شيء قائم لشيء آخر، معبَّر عنه من قبل شخص ما، والعلامة بحدّ ذاتها لا تنال الموضوع مباشرةً، بل من ناحية ما يُمثّله، أي إنّ العلامة تقوم أساساً على علاقة ثلاثية بين ثلاث حيثيات على التوالي: العلامة بحدّ ذاتها، أو الوسيلة، والموضوع والتعبير عنه.
والحال، فبنية الحجاب وحدَها لا تمنحنا إلا ملامح لها علاقة بداله الظاهري، بينما الحقيقة هي أنّنا إزاء علامة مفصّلة، لا تتبدّى دلالاتها بشكل مباشر، بل تتوارى في ثنايا مرجعيتها، أي في مجموع المعارف والتصورات المتصلة بها، والتي تنوب عن مظهرها، فالحجاب علامة، شأنه كالفونيم في اللغة، لا يشكّل بمفرده دالة، إذ تظلّ ميزاته تقديرية ما لم تُسيّجها مقاربة تشابكاته مع بقية العلامات الأخرى، وهو ما عناه ليفي شتراوس حين أضاف تصويبات إلى مبدأ اصطلاحية العلامة، فلم يكفّ عن التذكير بأنّ دلالات العلامة تُستدَقّ، بالنظر إلى علاقتها ببقية العلامات.
من هنا يجدر القول إنّ للحجاب قيمةً اجتماعيةً فلسفيةً كبيرة، تدلّ على الهوية الاجتماعية الجندرية لحاملته، ومهما تكن الدرجة التي تلعبها ذاتية الواحدة منهنّ في اختيار الحجاب المناسب لها بحسب ذوقها الشخصي (حجاب الموضة)، فإنّه يحدّد، رغم عدم انضباطه، إلى درجة كبيرة، المجال الاجتماعي الذي تنتسب إليه، كما يُعَدّ مؤشّراً على تمثّل التوجهات المعرفية والدينية والسياسية، والجندرية، التي ترتسم في المجتمع، والهادفة إلى تثبيت صيرورة اجتماعية محدّدة للمرأة.
وبالتالي يتّخذ الحجاب أهميّتَه لا كعلاقة منفصلة، مكتفية بذاتها، كرداء يُعلَّق أو يُطوى في خزانة الملابس، بل كمنظومة علامات دينية، سياسية، حزبية، مفاهيمية، جدرية جوهرياً.
إنّ توسُّلَ جسد المرأة ووجودها، للإعلان عن مجموعة دينية تطالب بدور سياسي أو ترغب في المحافظة عليه، وتعزيزه، لا يُخفي النزعة الذكورية الكامنة في نفوس قيادات هذه المجموعة وأعضائها، الطامحة إلى التحكّم بحيوات النساء تحت مسميات التكاليف الدينية، ومخافة الله، ولا ذعر هؤلاء أمام الوثبة الاجتماعية والشخصية التي حقّقتها المرأة العربية المسلمة، في خلال القرن الماضي، ورغبتهم في إعادتها إلى الحظيرة الذكورية ووضعها تحت المراقبة المُحكمة.
تلك الوثبة التي كانت أحد أبرز ارتدادات الخطاب النهضوي النسوي، والتحرُّري عموماً، والذي بدأ بالتشكّل ابتداءً من أوائل القرن التاسع عشر، مع رفاعة رافع الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وأحمد فارس الشدياق، وبطرس البستاني، وزينب فواز، وقاسم أمين، ونظيرة زين الدين، وغيرهم.
ثانياً: عودة الحجاب المظفّرة
إنّ ما يُحفّز على إثارة مشكلة الحجاب، بإلحاح، هو ارتباطه المكين بإعادة توزيع الخصال والخواص والأدوار والحقوق والواجبات بين الجنسين، على أسس تمييزية تراتبية صارخة، تُمليها مفاهيم مفوّتة، حول ماهيّتَي الأنوثة والذكورة ووظائفهما، وارتباطه العضوي، من جهة أخرى، بالحراك السياسي والأيديولوجي النكوصي، الذي ينال المجتمع بأسره، أو شريحة واسعة منه، وهذا الارتباط يجعله متغيّراً، متذبذباً، يتحرّك بالتناوب، تارةً يغيب، وتارةً يحضر، تارةً يهبط وتارةً يعلو، وهذا الافتراض سوف تُثبته وتُبرهن عليه سيرورة الحجاب في العالم العربي في خلال القرن العشرين، الذي شهد صراعاً بين التنوير والموروث، بين الرغبة في النهوض والخوف منه.
بعد تلاشيه التدريجي ابتداءً من عشرينيات القرن الماضي، الذي عرف ثورات سفورية متنقّلة، أربكت المجتمع التقليدي، وجاءت تُعبّر عن الرغبة في النهوض، والحداثة، والحريات، وإعادة النظر في الموروثات، عاد الحجاب بقوة في نهاية القرن ذاته، في مصر، التي شهدت أوّلَ ثورة سنورية في العالم العربي، وسوريا، ولبنان، بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1982 وصعود تيار الثورة الإيرانية الإسلامية فيه، والعراق، واليمن، وبلاد المغرب العربي، وغيرها، في أجواء مشحونة متأثّرة بأجواء الهزائم السياسية، بدءاً من نكبة 1948، مروراً بهزيمة 1967، وفشل الأنظمة السياسية، أكانت تقليدية أم علمانية، في تحقيق الديمقراطية والتنمية، والعدالة، وعلى رأسها العدالة الاجتماعية، وإشباع حاجات مواطنيها، والتأقلم مع طموحاتهم، وصولاً إلى تصدير الثورة الإيرانية عام 1978، بكل محمولاتها الأيديولوجية والاستراتيجية، إلى البلدان العربية، وما آل إليه هذا التصدير من إنعاش للشعور الديني، بكافة مذاهبه ومشاربه.
أدّت هذه الأجواء إلى صعود التيارات الإسلامية وأحزابها، مستفيدةً من تراجع الفكر النهضوي التنويري، بشقَّيه العلماني، والتوفيقي، ومستفيدةً أيضاً من عجز هذا الفكر، بخطابَيه، العلماني، والتوفيقي، عن أن يكون مرجعيةً ثابتةً تُؤصّل للإنسان العربي نظرتَه إلى الدولة، والقانون، والعلم، والإنسان، والوجود، والمجتمع، والمستقبل، فكان «الإسلام هو الحل»، بديلاً من «العلمانية هي الحل»، أو «التوفيق هو الحل».
وانتهى الأمر بالتيار الديني السلفي، أن حمّل التيار الإصلاحي، بشقّيه، العلماني، والتوفيقي، مسؤوليةً الهزائم العسكرية المتتالية.
وعلى هذا المنوال، تصدّرت الأحزاب الدينية الواجهة، معلنةً عن حضورها وانتشارها بشتى الوسائل، العصرية والقديمة، وبرعاية بعض الأنظمة، أحياناً، واتّخذت معظم هذه الأحزاب والتيارات الأصولية، من «الحجاب» شعاراً لها.
وترافقت بالتالي ظاهرة انبعاث الحجاب، مع تراجُع قيم الحداثة السياسية والاجتماعية، فالأحزاب الدينية ترفع شعار الحاكمية لله، وتنتزع من الإنسان حقَّ التفكير، والتشريع، وفق ما يراه مناسباً لعصره، وهي تنتزع منه، في الآن عينه، حرياته الشخصية بما هي حرية التفكير والاعتقاد، والقول، واللباس، والأكل، والشرب، والاستمتاع بالفنون، بمعنى آخر هي تنتزع منه حقَّ اختيار نمط الحياة اليومية الذي يرتضيه، ويرغب فيه.
فانكفأت مع انكفاء قيم التنوير والحداثة، قيم الفردية، والتفرُّد، لصالح الـ «نحن»، والجماعة، والأمة، والحزب السياسي، الذي أعلن نفسه وصيّاً على التراث والمجتمع.
إنّ عمليات التدجين الاجتماعي التي تنتهجها الأحزاب الدينية، تنال أيضاً من حياة الرجل وحرياته الشخصية، ولكنّها تُغريه بين ما تُغريه به، بالحفاظ على امتيازاته الأسرية السلطوية، إلا أنّ نصيب المرأة من هذه الممنوعات والمحظورات يظلّ أكبرَ شأناً، نظراً إلى البنية الفكرية التراتبية الأبوية، التي تحكم هذه الأحزاب.
من هنا يتبدى «الحجاب» كرمز لمنظومة متكاملة من المفاهيم الفلسفية التي تُنظّم الوجود والمجتمع، وتُؤطّر الفرد، تأطيراً محكماً، لا فكاك منه، لارتباطه بالعلوي والمقدّس.
ثالثاً: الحجاب جندري أم حيادي؟
ينحو دعاةُ الحجاب إلى اعتباره فريضةً دينيةً خالصةً، يُنزّه حضور المرأة من الطابع الشهوي، مضفياً على وجودها مسحةً روحانيةً علويةً، لا أكثر ولا أقل، ناكرين أدنى تأثير على مسارها وصيرورتها العامّين.
والحال، تدلُّ الوقائع، على تزامُن «عودة الحجاب» مع تراجُع المفاهيم والتصورات حول أدوار النساء، وتراجُع النساء المحجّبات أنفسهنّ، عن أدوارهنّ وحقوقهنّ، وتبنّيهنّ الشخصي للمقولات الذكورية والجندرية.
ففي مصر على سبيل المثال، شاعت، في أواخر السبعينيات، أي في مرحلة «عودة الحجاب»، كتاباتٌ تهاجم النساء العاملات وتطالب بعودة المرأة إلى المنزل، والاكتفاء بتأدية دورَي الزوجة والأم، على اعتبار أنّهما الدوران الرئيسان بل الوحيدان في الحياة المنسجمان مع طبيعة المرأة، وشاع فكرٌ يهاجم سفورَ المرأة واختلاطَها بالرجال، واشتراكَها في الحياة العامة، منتقداً مطالبتها بالمزيد من الحقوق بدعوى أنّه تقليد أعمى للغرب، وأنّ له عواقب وخيمةً على المجتمع الإسلامي والإنساني كلّه، فإنّ الغرب يقدّم نماذج مشينة للأخلاق وللأسرة المسلمة.
وجرت محاكمة قاسم أمين وهدى الشعراوي مع مفعول رجعيّ، واتهامهما بالتبعية الكاملة للغرب، ووقوعهما في أحضان «الماسونية».
والأنكى أنّ الأمر انتهى بتبنّي المحجّبات أنفسهنّ للتصورات الذكورية، ففي دراسة أجراها «المركز القومي للبحوث» في القاهرة، عن ظاهرة الحجاب بين الجامعيات المصريات، كانت المحجبات المستجوَبات أقلّ إيماناً بحقّ المرأة في العمل والترقي، و 76,5% منهنّ يعتقدنَ أنّ أهمية التعليم تنحصر في أن تُعَدَّ الفتاة لتكون زوجةً صالحة، والموافِقات منهنّ على مبدأ العمل، يُحطنَ هذه الموافقة بشروط، منها أن يكون عملها محصوراً في مهن معيّنة بالذات، كالطب والتدريس، أو أن تكون المرأة في حالة عوز اقتصادي. كما يذكر الكتاب عدة أمثلة على تراجع واقع المرأة المصرية الحقوقي.
هذه المعلومات تكفي للاستدلال على أن «عودة الحجاب»، لم تكن بريئةً، لا من النظرة الإيروتيكية إلى كيان المرأة، ولا من النظرة الجندرية التي تُوزّع الأدوار والخصال والقدرات والحقوق والواجبات على أساس «النوع» والطبيعة البيولوجية للجنسين، والسابقة على الثقافة والاكتساب، وحركة التطور.
إنّ ارتباط ظهور الحجاب بالنظرة الماهوية التبخيسية إلى المرأة، وإنكار حقوقها الشخصية والعامة، والسعي إلى تحجيم وجودها وأدوارها، كما ارتباطه بشيوع الفكر الديني المتشدد، والنكوصي، وبعجز الدولة المركزية عن إشباع حاجات مواطنيها السياسية والاقتصادية، يجعل من مقاومة شيوع ظاهرة الحجاب، مقاومةً متعدّدةَ الأبعاد والجهات، ركيزتها الأولى إشاعة منطلقات ومفاهيم الفكر التنويري الحداثوي والنضال العام من أجل تغيير المفاهيم، والرفض الميداني لكل ما يُسيء إلى «منظومة حقوق الإنسان».