بقلم عقل العويط
روى الراوي أنّ السفّاح خبط بيديه على الطاولة، وبملء شدقيه قال: أَبيدوهم. أَبيدوهم. وليكتب التاريخُ على لساني روايةً بالعنوان أعلاه. فسأكون سعيدًا بذلك، لأنّي أنا الذي سيحقّق حلم إسرائيل.
وأردف صارخًا بصوتٍ أبوكاليبتيٍّ عظيم: أَبيدوهم. أَبيدوهم. ثمّ كرّر استخدام فعل الإبادة للمرّة الثالثة تأكيدًا.
كان مشهد الأطفال يقضّ مضاجعه.
لم يكن يتحمّل بلابل أصواتهم. ولا ألعابهم. ولا ضحكاتهم. ولا أغانيهم. ولا قدراتهم الفائقة على إبداء عدم الاكتراث. ولا سيّما نظرات عيونهم المضفورة بسحر فلسطين.
كان يكرههم. الكره كلّه. وجميعه.
لو استطاع، لجعل السماء تُطبق على أنفاسهم. ولهيّأ لهم حطب المحرقة. كي لا تبقى منهم ذرّية. ولا نسل. ولا شاهد.
أكثر ما كانت تستفزّه، مشاهد أولئك الذين، منهم، بُتِرت أقدامهم، وشُلّت أيديهم، وفُقئت عيونهم، وتمزّقت أشلاؤهم. وكيف أنّ هؤلاء، خصوصًا، لا يزالون يطلّون من شبابيك أعمارهم المخلوعة، ليقولوا له: خسئتَ يا حشرة، يا دودة!
وكانوا، كلّما استشاط، وأمعن، وأفحش، كانوا يستيقظون من قبورهم. ويينعون. ويزدادون ربيعًا على ربيع. وأغنيةً خلف أغنية. وقصيدةً في إثر قصيدة.
وكان كلّما اختلى بذاته، كان يسأل كيف أنّهم لم يموتوا يأسًا. وعذابًا. وقهرًا. وعزيمةً.
كان يعرف أنّهم يعاندون العطش. والجوع. والتعب. والضنى. والمرض. والتشرّد. واليتم. والإقامة في ذلّ التيه والعراء.
لكنّه لم يكن يستوعب قدرتهم على الخروج من القبور إلى تلال الخراب والركامات ليلعبوا فوقها. وليقهقهوا في وجه الموت. وليواصلوا العيش.
كان يسأل وجوهه ومراياه وأيديه: كيف يستطيعون؟ كيف يستطيعون؟!
وكانت تعييه الأجوبة.
وكلّ ليل، كان يؤخّر الليل، لأنّه كان يرعبه أنْ يغمض عينيه وينام.
فقد كان يخشى صدى أصواتهم. وصورهم. وألعابهم. وأسمال ثيابهم الممزّقة.
وكان يهلع كلّما أطلّوا عليه من شرفات مناماته والكوابيس، فيصرخ في أودية روحه الممهورة بالتوحّش، مهلوسًا: أَبيدوهم. أَبيدوهم. كيف لم يُبادوا، بعدُ. كيف؟!
أضاف الراوي: ثمّ علم من الصحف والشاشات أنّ وزارة الصحّة الفلسطينيّة أعلنت تسجيل أوّل حالة إصابة مؤكّدة بفيروس شلل الأطفال لرضيع يبلغ عشرة أشهر في دير البلح، وأنّها أطلقت النفير، والإنذار، بأنّ هذا المرض سيغزو فلسطين، إذا لم تُنفَّذ على الفور حملة تطعيم للأطفال عن بكرتهم.
تلمّظ السفّاح، وهتف في سرّه، وعلنًا: لقد وجدتُها. لقد وجدتُها!
فأرسل، من جهته، العسس إلى كلّ موضعٍ، وعمّم كلمة الليل التي لن يمحوها نهار: أقصفوا. أقصفوا. كلّ شيء. وكلّ مكان. لا تتركوا مستوصفًا. ولا خيمةً. ولا سقفًا يمكن تحويله إلى غرفة طوارئ. ولا حتّى القبور. جرِّبوا كلّ الطرق والأساليب لعرقلة وصول اللقاحات. وإذا كان لا بدّ، فأبطِلوا مفاعيلها. وإذا اقتضى الأمر، فسمِّموها. ممنوعٌ أنْ يبقى طفلٌ في فلسطين. ومن أجل ذلك، وفي سبيله، ممنوعٌ تلقيحُ الأطفال الفلسطينيّين ضدّ الشلل. وإذا كان لا بدّ، فأكثر. أكثرـ والويل لمَن يُرى حاملًا حبّة دواء، أو جرعةً، أو إبرة مصل. أو مسهِّلًا وصولها. وتلقّيها.
ممنوع. وتحت الطائلة. وبأيّ ثمن. ولا يهمّني أنْ يكتب التاريخُ عنّي روايةً بالعنوان أعلاه. بل سأكون سعيدًا بذلك، لأنّي أنا الذي سيحقّق حلم إسرائيل.
قال الراوي: لكنّهم، أطفال فلسطين، كانوا يولدون من قبورهم كلّ فجر، ويولمون أحلام طفولاتهم ليضيئوا بها الشمس. وليوقظوا الحياة. وليزرعوا أبيض اللوز والأمل. وليعيشوا. وليلعبوا مع الموت. وليتلاعبوا به. إلى أنْ يفوزوا، ولا بدّ، عليه.