جورج قرم المفكّر الحضاريّ الاقتصاديّ السياسيّ اللبنانيّ العروبيّ الإنسانيّ الأريستوقراطيّ العلمانيّ التنويريّ الرؤيويّ الاستشرافيّ
( 1940-2024 )
بقلم عقل العويط
التقيناه قبل نحوٍ من شهر، في أحد مقاهي وسط العاصمة القتيلة. اصطحبتني إلى الموعد، السيّدة النبيهة العارفة رينيه أسمر هربوز، كريمة مؤسّس “الندوة اللبنانيّة” ميشال أسمر، بُعَيد أيّامٍ من الاحتفاء، في جامعة القدّيس يوسف للآباء اليسوعيّين، بمئة عام على ولادة العلّامة الملفان يواكيم مبارك (20 تموز 1924 – 24 أيار 1995)، الذي ذهب، على قول جورج قرم، مكسور الخاطر، وفي قلبه أكثر من غصّة ومرارة، على مستوى الإصلاح الكنسيّ، والعلاقات الدينيّة، كما في السياسة على السواء.
جلوسه المتهالك، قبالتنا، كان يوحي أنّه لم يعد موجودًا كثيرًا “هنا”، بسبب نهش المرض المتقادم. كان الرجل، في الغالب، موجودًا “هناك”، في “المكان البعيد”، ومتعبًا كان، لكنْ هادئًا هدوء المبصرين المفكّرين والفلاسفة. كلامه القليل المتباطئ كان محكمًا ولا يحتاج إلى شروحٍ مستفيضة، مليئًا بالعلامات والإشارات، الأقرب إلى الاستشراف النبوئيّ، ولا سيّما بالنسبة إلى الشرق الأوسط، وفلسطين، والقضيّة الفلسطينيّة، وإسرائيل، والصهيونيّة، والغرب، و… لبنان.
توقّف عند الذكريات، ذكريات الأمكنة والأزمنة، والإرث القرمي (نسبةً إلى عائلته)، وإشكاليّات الحضارات، والهوّيّات، والأديان، والمذاهب، والطوائف، والأحزاب، والأفكار، والعقائد، والإيديولوجيّات، وأوروبا، والشقاء العربيّ، المشرقيّ، اللبنانيّ، الفلسطينيّ المستديم. تحدّث عن الكوزموبوليتانيّة التي كوّنت شخصيّته في الإسكندريّة، والقاهرة، ودمشق، وبيروت، وباريس، وعن قضايا العرب، والغرب، وحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل في غزّة، ومجمل فلسطين، وروى لنا أنّه أنهى، أو يكاد، كتابة مذكّراته، الشخصيّة والعائليّة والثقافيّة والفكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة.
عرضتُ عليه أنْ تنشر له “النهار” فصلًا من المذكّرات، فابتسم قليلًا، وكان افتراره مضفورًا بغيومٍ كثيفةٍ في عينيه. ذكّرتُهُ بأنّ “الملحق”، “ملحق النهار”، وكان الياس خوري آنذاك رئيسًا لتحريره، وكنتُ مديرًا للتحرير، أجرى معه حوارًا (السبت، 7 حزيران 1997)، فابتسم أيضًا. قليلًا. ثمّ، فجأةً، في 14 آب الجاري، خرج جورج قرم من الحياة. وقبل الأوان. تكريمًا له، ولمكانته المعرفيّة الخلّاقة، نعيد تلخيص بعض أهمّ الأفكار والآراء والمواقف التي تضمّنها ذلك الحوار الجامع الذي جرى قبل 27 عامًا، وكأنّه يُجرى الآن، لما ينطوي عليه من بعدٍ راهنيٍّ واستشرافيّ، ولا سيّما بالنسبة إلى المسألة الوجوديّة الساخنة في فلسطين ولبنان والشرق الأوسط.
الصهيونية ولا عقلانيّة الغرب
* لفت انتباهي منذ حرب 1967، موقف الغرب اللاعقلاني بالنسبة الى مبادئه هو، من الظاهرة الصهيونية، أي هذا التعلق الشديد واللامبرر منطقياً بفكرة “عودة” يهود من جنسيات وثقافات مختلفة، متجذرين في دول “شتاتهم” منذ ألفي عام، الى فلسطين، بناء على نص إيماني وروحي، أسّس التوحيد في فروعه الثلاثة، وليس له صفة قومية.
لا قومية للتوراة، كما لا قومية للمسيحية أو للإسلام. فهي رسالات للبشرية جمعاء. ولم أتمكن من فهم المبررات المنطقية لدى المفكرين والفلاسفة الغربيين في هذا الموضوع، الذين أصبحوا ينظرون الى اليهود الموجودين في مجتمعات كثيرة، بأنهم ليسوا جزءاً من هذه المجتمعات، إنما هم “شعب” له صفات قومية لم تتغير منذ وجدت ممالك صغيرة، وغير مهمة تاريخياً على جزء من أراضي فلسطين. وكان هذا الموقف ينبع في أحيان كثيرة من مفكرين علمانيين يدافعون عن فصل أي انتماء ديني عن الانتماء الوطني والقومي، وإذ بهم يتحمسون لقضية عودة الشعب اليهودي الى موطن “تاريخي”.
نحن العرب، كنا نفسر هذه الظاهرة بأن إسرائيل هي أداة الاستعمار، من وعد بلفور الى كل الحروب التي تلته، ثم أصبحنا نوسع التحليل، إنما في شكل مبسط، فنقول إن هناك عقدة بالنسبة الى المحرقة في عهد هتلر في أوروبا، وأخذ بعض الأوساط السياسية والفكرية العربية بالتبسيط الأكبر، وهو أن هناك مؤامرة يهودية عالمية لتقويض أسس المجتمعات، بناء على الكتاب المشهور “بروتوكولات حكماء صهيون”، الذي هو نتاج الثقافة الغربية، ولا علاقة لنا كعرب بهذا الكلام كله. وبُنيت على أساس ذلك، كل النظريات العربية عن وجود لوبي صهيوني يحرّك البيت الأبيض، ويفرض على أميركا والدول الأوروبية تصرفات معينة.
أنا لم أقتنع بكل هذه الأطروحات، ورأيتُ على مدى الأعوام الأخيرة، تعاظم ما أُسمّيه ثقافة المحرقة، التي أصبحت تنتشر في كل أجزاء الثقافة والفكر الغربيين، ورأيتُ أنها ظاهرة حَرية بمزيد من الاستقصاء والتساؤل، خصوصاً أني رأيتُ في أحيان كثيرة حماسة سلطات دينية مسيحية وعلمانيين مسيحيين حيال الأطروحات اليهودية، وشهدتُ في الأعوام الأخيرة في فرنسا، المعارك الخاسرة للفرنسيين اليهود العلمانيين والمعادين للصهيونية، لإثبات آراء مختلفة. رأيتُ أساتذة جامعيين لامعين استبعدوا من كل مراكز النفوذ الثقافي.
رأيتُ باحثين ورجال سياسة ورجال أعمال يفقدون أيّ صدقية لدى طرح أفكار معادية للصهيونية، وإنْ كانت هذه الأفكار تنطلق من إيمان كبير بمبادئ الديانة اليهودية ذاتها. شعرتُ حينئذ أن الثقافة الغربية نفسها، دخلت مساراً تغييرياً ضخماً، عجّل فيها انهيار الاتحاد السوفياتي والأطروحات العلمانية الالحادية كالماركسية، وعادت إلى البروز في المواقع الفكرية الغربية، أجواء حماسية أكاديمية إعلامية، لها علاقة بعودة الدين كعنصر من العناصر الأساسية في حياة الشعوب. وبدأتُ في كتابي الأخير le proche orient eclate(يومذاك)، محاولة إرساء بعض المعالم لفهم ما يجري في الفكر الغربي، ورأيتُ أن ركيزة هذه الصحوة اليهودية هي في أميركا، وأن ثقافة المحرقة، خلافاً لما كنت أعتقده، ليست أوروبية المنبع إنما أميركية، وسعيتُ الى وضع تأريخ للخطوات الرئيسية التي حفظت أميركا من خلالها، الثقافة الجديدة هذه، وعملت على نشرها عالمياً. وفي تقديري، أنه لا يمكن فهم الظاهرة الصهيونية في غياب الاطلاع على خلفيات معينة، ومنها الثقافة البروتستانتية الأنكلوسكسونية التي بُنيت عليها القومية الأميركية نفسها، والعلاقة العميقة بين المجتمعين الإسرائيلي والأميركي. وهي ليست علاقة استراتيجية وعسكرية فحسب، وإنما علاقة ثقافية ودينية، يشترك المجتمعان فيها بمفاهيم معينة في النظر الى العالم، ومنها أهمية الهويات الدينية- الطائفية في حياة الشعوب، وضرورة تأسيس الحرية على أساس حقوق طوائف واثنيات ومجموعات تدّعي الخصوصية.
وفي هذا الإطار، يمكن أن نفهم ما جرى في لبنان سابقاً، وما جرى بعد ذلك في الشكل الدموي نفسه في يوغوسلافيا، وما يحصل أيضاً ضمن حدود – والحمد لله – في الهند، من صدامات بين الهندوس والمسلمين. كل هذا يعني انهيار الجانب العلماني في فلسفة الأنوار، وهي فلسفة أخذها رواد النهضة العربية ليمزجوها بأفضل ما هو موجود من اجتهادات تنويرية سواء في الفكر الديني الإسلامي، أو في الثقافة العربية في شكل أشمل، ليخرجوا بمشروع نهضة عربية شاملة، وهو المشروع الذي اصطدم بعقبات شتى. مفاعيل هذا الوضع المستجد، أن المحور الأميركي الإسرائيلي يحظى بتأييد أدبي ومعنوي شبه كامل لفرض سلام غير متوازن على العرب، في الصراع العربي الإسرائيلي، وهو صراع جذوره ليست محلية، إنما نابعة من تاريخ علاقات دموية وغير متكافئة بين الديانتين اليهودية والمسيحية في الغرب.
إن ما أُسمّيه ديناميكية الفشل العسكرية لمنع إقامة الدولة الصهيونية ومنع توسعها، قد أدّى الى ما نحن فيه في المنطقة، من عدم وجود أي تكافؤ، سواء من الناحية العسكرية أو من الناحية الاقتصادية، وهي ناحية مهمة للغاية في أيّ صراع، بالإضافة إلى تأخّرنا في فهم حقيقة مجريات الأمور. وعندما دخلت الأنظمة العربية مساراً تفاوضياً مع إسرائيل بعد حرب الخليج، كانت الفرضية أن شوكة الصهيونية انكسرت، وأن أميركا في إمكانها وضع حد للاتجاهات الاستيطانية القومية في المجتمع الإسرائيلي، وأن إسرائيل تريد فعلياً السلام لترتاح اقتصادياً، ولكي تصبح نوعاً من مركز اقتصادي مميز في الشرق الأوسط.
كل هذه الفرضيات كانت لا تستند إلى أي مبررات واقعية، فالاقتصاد الإسرائيلي لم يتضايق من المقاطعة الاقتصادية العربية، وهو اقتصاد متطور ومرتبط باقتصادات الدول الغربية، والديناميكية الاستيطانية كانت في أوجها، وإن كان الكلام المعسول للقيادة العمالية في إسرائيل يوهم الرأي العالم العالمي بأنها ستوقف الاستيطان، في حين أنها لم تفعل ذلك ميدانياً.
فالحسابات التي بنيت عليها محاولات السلام، قامت كلها على غير أسس، إلّا خيال الإدارة الأميركية وشمعون بيريس بأنه يمكن إقامة علاقات ود وأعمال تجارية بين الإسرائيليين والعرب، بينما لا يزال الاستيطان مستمراً، وكذلك ضرب جنوب لبنان في الشكل الوحشي الذي يعانيه أهاليه منذ ثلاثين عاماً، ومن دون انقطاع.
التسوية في الشرق الأوسط
* أعيش باستمرار مشكلة الشرق الأوسط. عندما أكتب أن الظروف الموضوعية للسلام ليست متوافرة – إذا أردنا سلاماً متوازناً وليس قمعاً تحت قناع السلام – يقول أصدقائي إنني متشائم وأضاعف الإحباط الموجود. أقول العكس تماماً:
1، نظراً إلى الموضوعية، أتعجب دائماً أن الأوضاع ليست أسوأ مما هي عليه، وأن قدرة شعوبنا على تحمل المصاعب كبيرة للغاية، مهما كان مضروباً على رأسها.
2، لا يمكن بناء مستقبل إذا لم نفهم تعقيد الواقع الذي نحن فيه.
3، لا حل جاهزاً للوضع الانحطاطي الذي نتخبط فيه عربياً ولبنانياً. الحل الجاهز والتوق الى إيجاد حل جاهز هو إرث من الثقافة الثورية الغربية من جهة، وإرث الديانات التوحيدية من جهة ثانية.
الجميع يبحث عن الكلام شبه السحري الذي سيأتي بالحل والنهضة. ما دام الجو الثقافي العربي بكل أهوائه العقائدية – أكانت دينية أم علمانية – سيكون على هذا التوجه، فلن يبرز الحل ولن يبرز طريق العمل من أجل تعجيل الحل.
المشكلة الأساسية أن قدراتنا العقلية من المحيط الى الخليج تُستنزف بمتابعة الأحداث اليومية ومناقشتها على أمل العثور على بريق الأمل، وهذا شيء يحصل عندي أيضاً وأقاومه باستمرار: شراء الجريدة، الاستماع الى الراديو والتلفزيون لأعرف ماذا يقول فلان. الحقيقة، أن هذه الأمور مضيعة للوقت.
وفي تقديري، أن القدرات العقلية الكبيرة الموجودة يجب أن تنصبّ على تناول الواقع في تعقيداته. هذا هو المنهج الذي أدعو إليه، ولا أدعو إلى أجواء معارك. أقول إننا يجب أيضاً أن نزيح النموذج الغربي من جهودنا الفكرية، لأن تفكيرنا مرتبط في شكل ضمني أو واضح بعلاقة مرضية في الثقافة الغربية. لذا، فإن الحوار بين بعضنا نحن المثقفين العرب، هو غير مباشر. حوار عبر موقفنا جميعاً من مراجعنا الثقافية الغربية. أود أن أقول صراحة، إن الشعب المكسور عسكرياً تنهار مقوّماته الثقافية، عندما يهاجَم من شعوب أخرى.
عندما أحلل الفارق في المصير بين ما حصل للوطن العربي وما حصل للأتراك، وأرى أين أصبح الأتراك وأين أصبحنا نحن، فلا شكّ عندي أن الانتصار العسكري الذي حققه كمال أتاتورك ضد كل الجيوش الغربية الموجودة على أراضي الأناضول في نهاية الحرب العالمية الأولى، هو الذي أتاح لتركيا أن تصبح دولة محترمة في المجتمع الدولي، وأن يؤسس لفصل الدين عن الدولة، وأن يتقدم اقتصادياً رغم كل الصعاب والمشكلات الإقليمية والداخلية. نحن، منذ معركة ميسلون التي خسرناها أمام جيش فرنسي مصغّر للغاية، نتلقى الانهزامات العسكرية، الواحدة تلو الأخرى، ولا نتمكن من الخروج من ديناميكية الفشل هذه. الناحية العسكرية أساسية لاستعادة الثقة بالنفس.
الطريق المسدود في لبنان وشروط الأمل
* طريق الدولة مسدود باستمرار منذ دخول الطوائف اللبنانية طرفاً سياسياً في الصراعات الإقليمية منذ بداية القرن التاسع عشر. فالدولة مجرد حلم عند اللبنانيين، وكلما سعوا الى تخطي العقبات أمام إقامة دولة المساواة والسيادة الفعلية، لم يحسنوا استعمال الوسائل الكفيلة النجاح، وتغلب عليهم النظام الطائفي ذاته، المزروع منذ انهيار الإقطاع التقليدي.
وأمام الفشل، يتقوقع اللبنانيون إما فكرياً وإما في التصرف الميداني بالقوالب الطوائفية والعشائرية التقليدية. وهذا هو الوضع في معظم الأقطار العربية عندما لا تتأسس الدولة العادلة الحديثة التي تحرّك المجتمع نحو الإبداع والدفاع الفاعل عن النفس حيال التحديات الخارجية. في تقديري، من الضروري عدم فقد الأمل. الأوضاع كان يمكن أن تكون أسوأ بكثير، ومن هذه الناحية أنا متفائل ولست متشائماً، إذ لدينا قدرات كبيرة إذا تجنبنا دخول المعارك الجانبية ووفّرنا قدراتنا للمستقبل عندما تحين الظروف المؤاتية للتغيير.
وأنا أخشى، في ظروف استنزاف القدرة، أن تستمر المعارك الصغيرة، السياسية المحلية، وأن تُربط في شكل دراماتيكي بالسياسات الإقليمية والدولية، مثلما نفعل منذ القرن التاسع عشر. وهذه مضيعة للوقت وتحول دون بناء الثقافة والفكر اللذين عليهما يمكن أن نبني مؤسسات تتخطى النظام الطائفي الذي نتخبط فيه، وذلك من دون قمع أي لبناني في ما يعتقد أنه هويته الجوهرية.
ومن الشروط الموضوعية التي يجب أن نعمل من أجلها في لبنان، تغيير المناخ الثقافي والإعلامي، للتفكير في بناء المؤسسات والسياسات الاقتصادية البديلة، وضرورة تعميق الوعي بأن الاستقلال والسيادة لا يمكن أن يتمّا في وجود ارتباط الطوائف سياسياً بالصراع الإقليمي، وارتباطها بعلاقة محارم مع مؤسسات الدولة، مما يجعلنا نخسر الدولة والطوائف. إن التعامل في الفكر السياسي بمقولة حقوق الطوائف يؤدي حتماً إلى إنكار حقوق الأفراد، وهذه نقطة جوهرية يجب أن يحصل اقتناع توافقي بين اللبنانيين حيالها.
ويمكن أن نجد في التراثين الإسلامي والمسيحي ما يغذي حواراً رصيناً مثل هذا حول الموضوع. لكن المضي في تأكيد حقوق الطوائف يؤدي حتماً الى استمرار السيادة الناقصة والحريات الضائعة، بين حرية زعماء الطوائف المدنيين وحرية المواطن الواقع في الأسر الطائفي، الذي يديره المدنيون باسم الدين وليس رجال الدين. من ناحية المنهج، أنظر إلى الأصوليات الدينية على أساس أن لا علاقة لها بالدين، إنما هي مشاريع سلطة سياسية لمتزعمي هذه الحركات. وأنا أصفها باستمرار، بأنها أحزاب سياسية عقائدية، ولا أدخلها في ما يصفه الباحثون عادةً، في ظاهرة الصحوة الدينية أو الإسلام السياسي. أما الجمهور المنخرط في تلك الدعوات فهو جمهور يبحث في شكل فطري وعفوي عن مخرج من الأوضاع المأسوية التي تعيشها الشعوب العربية.
ولا حاجة هنا الى ذكر فشل الإيديولوجيات “الحديثة”، ولا مجال للدخول في تفسير هذا الفشل. وحين أقول أن لا وجود لمشكلة دينية، أعني أن لا مشكلة بين الإيمان والحياة الدنيوية والمواطنة الحديثة، إلّا عندما لا يكون هناك من وجود لحركة فلسفية وثقافية تؤمن عناصر الانسجام النفسي بين الإيمان والحياة الدنيوية.
مشكلة التعامل مع النص الديني هي مشكلة بناء الفكر والتمكن من السيطرة على العلاقة الصعبة للغاية بين الديانات ذات الرسالات النشطة التبشيرية، لتأمين خلاص البشرية جمعاء، وبين احترام الإنسان ككيان مستقل يتمكن من إقامة علاقة إيمانية إذا احتاج الى ذلك، من دون أن تفرض عليه مؤسسات السلطة هذه العلاقة.
فالنص القرآني أو الأناجيل أو التوراة، هي نصوص موجودة وقد تعامل أتباع هذه الديانات مع هذه النصوص في أشكال مختلفة على مرّ العصور، وفي تأويلات متناقضة، تعكس تعددية الآراء لدى البشر، وفي كل من الديانات الثلاث مخزون من الاجتهادات التنويرية، ومخزون آخر من الاجتهادات المتزمتة.
وتدور المعارك بين أتباع الاجتهادات المتناقضة في التعامل مع النص الأساسي. وهي ليست معارك دينية، إنها معركة إيديولوجية سلطوية يجب أن نعي أبعادها، وأن نرفض تسميتها معارك دينية، أو نسمي بعض الاجتهادات كأنها جزء من نهضة أو صحوة دينية. فالموضوع فكر ومنطق وحوار، ومسؤولية المثقف هي إزاحة هذا الحوار عن المظاهر السلطوية في مجتمعاته.
دور المثقف
* على المثقف أن يسعى إلى فهم سلّم قيمه الذاتية التي من خلالها يكتب وينظر الى الواقع. مأخذي على المثقفين، عرباً وغير عرب، أن نقدهم الذاتي لسلّم القيم غير موجود، وأن إعلانهم لقيمهم الذاتية الضمنية هو واجب. احترام القارئ والجمهور غير موجود. في آخر مؤلف لي في اللغة العربية، “مدخل إلى لبنان واللبنانيين”، أعلنتُ سلّم القيم الذي أؤمن به.
أذكر أن عملاقاً في الثقافة العربية هو قسطنطين زريق فعل الشيء نفسه في المقدمة التي كتبها لأعماله الكاملة وصدرت عن “مركز الدراسات العربية”. على المثقف أن يسعى الى بلورة الواقع في كل تعقيداته، والى احترام قوى فاعلة، حتى لو كان يعتبر أنها عدوة، لأن عليه أن يوضح لماذا بعض المجموعات – في عالم الثقافة والفكر وليس في عالم الطوائف – تتصرف في هذا الشكل أو ذاك. في نهاية التحليل، لا أعتقد أن أحداً لا يتصرف من دون منطق معين. الصعوبة هي في استيضاح ركائز المنطق لظواهر تبدو شاذة في الواقع. من هذا المنظار، أسعى الى فهم الدعم الأعمى المطلق في الثقافة الغربية للظاهرة الصهيونية.
ومن هذا المنطلق، أسعى الى فهم تمسك فئات واسعة من الجماهير العربية بمظاهر التدين كعنصر هوية، وإظهار الترابط بين التصرف الغربي الصهيوني وبروز الظواهر الدينية في العالم العربي. وبعد ذلك، أصف ما تقوم به القوى الفاعلة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً لاستغلال مثل هذه الأوضاع وتقوية ظواهر الهيمنة التي تمارسها، وإطالتها. وهذا بخلاف النمط الذي يسعى الى فهم مجريات الأمور، مركّزاً في شكل حصري على نسبتها الى التصرفات الشخصية لصانعي القرار.
الهوية
* أنا حذر في كتاباتي وأعمالي حيال استخدام تعابير “الهوية” و”البنية العقلية” و”عقلية شعوب”، لأنني أنطلق مما تكوّن لديّ من معلومات تاريخية بأن الهوية هي أولاً وأخيراً مركبة وليست أحادية الجانب. أي أن الإنسان ليس مارونياً أو شيعياً فحسب، إنما لهويته أوجه عديدة أخرى لا تمتّ بصلة الى انتمائه الطائفي أو العرقي أو اللغوي.
ثم ان الهوية ليست عنصراً جامداً لا يتغير عبر التاريخ، بل بالعكس، متحركة باستمرار. قد تجمد في فترات لأسباب لا علاقة لها بجوهر الهوية، ويمكن أن تصبح مثل النار والماء، أي في حركة مستمرة في ظروف أخرى.