عن صيدا «العصية» على الإنشقاق وإستكبار «حزب الله» !

كتب علي الأمين

تستحق مدينة صيدا بعض الوفاء، وبعض التواضع لتاريخها وشيء من الاحترام لأهلها، وكل الاتزان في التعامل مع مكوناتها السياسية والاجتماعية، وتنوعها الطبيعي الذي يشبه الناس والحياة، من دون تكلف ولا فرض.

مردُّ هذا الكلام ما تناقلته وسائل الاعلام، مع اعلان مجموعة منشقة عن “التنظيم الشعبي الناصري” الذي يرأسه النائب اسامة سعد، تأسيس “حركة النصر”، على راسها النائب ملحم الحجيري، العضو السابق في التنظيم الناصري والعضو الحالي في كتلة الوفاء للمقاومة، الى جانب نحو سبعة آخرين فصلوا او خرجو من التنظيم الناصري، منهم د. علي الحر وحمزة البزري.

واكد اعضاء حاليون في التنظيم الناصري، ان هذه المجموعة تتحرك بتوجيه من “حزب الله” الذي لايزال يصر على العبث بالمدينة، التي كانت الملاذ لعناصر الحزب نفسه في زمن الاقتتال المشؤوم بين حركة امل وحزب الله، وكانت ولا تزال بتنوعها مساحة متاحة لجميع التيارات الاجتماعية والسياسية بخلاف العديد من المناطق التي باتت الاحادية هي المسيطرة والمتحكمة.

صيدا عصية على “الزعامة الأحادية”

مشكلة “حزب الله” مع هذه المدينة، هي انها عصية على الأحادية، ولم يستطع احد في تاريخ لبنان الحديث ان يحتكر الزعامة فيها او ان يلغي التنوع في المدينة، لم تستطع المقاومة الفلسطينية في قمة نفوذها وسيطرتها، بين العامين ١٩٧٥ و١٩٨٢، السيطرة على المدينة وكانت فعاليات صيدا وعائلاتها ومنهم الراحل مصطفى معروف سعد، والراحل الدكتور نزيه البزري هم اصحاب القرار وكان ياسر عرفات نفسه لا يدخل المدينة، الا من باب معروف سعد ومصطفى سعد، وغيرهم من رجالات المدينة ورموزها المدنية والدينية.

رفيق الحريري.. نموذجاً

لا بل اكثر من ذلك، الشهيد رفيق الحريري نفسه ابن المدينة ورمز نهضتها منذ العام ١٩٨٠، والزعيم الذي تزعم بيروت سياسيا، لم تعطه صيدا كل الولاء، وحافظت على تنوعها وبقي الراحل مصطفى سعد الى آخر حياته معارضا للحريري، واستمر بعده شقيقه اسامة على نفس النهج السياسي، ولم يكن ذلك الا تعبيرا عن تنوع المدينة ورفضا لأيّ احادية، حتى لو كان رفيق الحريري نفسه، الذي كان ايضا يعي هذه المعادلة ومسلماً بها.

فرادة المدينة وحيويتها

منشأ هذه الصورة الفريدة للمدينة اسباب عدة أبرزها :

١- ان صيدا مدينة، وفيها شروط الحياة المدينية كمركز لمحافظة الجنوب، تحوي العديد من الاندية الاجتماعية والثقافية والرياضية، فيها العديد من صالات السينما، ومقر للعديد من النقابات المهنية والعديد من الجامعات والمدارس النموذجية، وهي قبل ذلك مركز تجاري لابناء قضاء جزين، وقضاء الزهراني وشرق صيدا، فضلا عن اقليم الخروب.

٢- هي الحاضنة لأكبر المخيمات الفلسطينية، اي مخيم عين الحلوة، ولم يشهد تاريخ المدينة اي مواجهة بين صيدا والمخيم، كما جرى في كل المخيمات الفلسطينية في لبنان، التي شهدت في تاريخها مواجهات مع محيطها باستثناء، بل يمكن القول ان العلاقة الصيداوية الفلسطينية، كانت ولا تزال مثالا للتفاعل الإيجابي بين الفلسطينيين واللبنانيين.

٣- موقع صيدا الوظيفي، كمركز تجاري لمحيط واسع متنوع دينيا ومذهبيا وسياسيا، مدينة جذبت اليها الاف العائلات اللبنانية والفلسطينية من مناطق مختلفة، وارتباطهم وانسجامهم مع طبيعة المدينة ورحابتها.

من ذلك كله تكمن فرادة المدينة من حيث حصانتها الطبيعية، تجاه كل نزعة احادية سواء كانت من داخلها او من خارجها.

“حزب الله” حاول يأئساً تطويع سعد

ويبدو بحسب اكثر من مصدر صيداوي، ان مشكلة اسامة سعد مع “حزب الله” في العمق، هي ان الحزب لا يقبل بالتحالف او الاختلاف، بل خياره اما التبعية الكاملة او العداء، ففي قمة العلاقة الايجابية مع سعد، عمد الحزب الى تشكيل سرايا المقاومة في صيدا، وهو تشكيل لم يكن دوره الا “مشاغلة” التنظيم الناصري، ما جعل سعد يسأل عن الحاجة لهذا التشكيل في صيدا، طالما ان العلاقة معه جيدة، وهذا ما ادى الى صدامات مسلحة في الشارع، ادت الى سقوط ضحايا قبل سنوات.

الحزب يضرب الندية.. وصيدا تنتفض

لا يحتمل الحزب الذي يرفع شعار المقاومة، اية علاقة نديّة مع اي طرف سياسي لبناني او حتى فلسطيني في لبنان، واكثر ما يسيء لهذا المنهج، هو نموذج صيدا المناقضة بطبيعتها، لمنهج الالغاء او الاستتباع، وتدرك ان وظيفتها لا تتحقق، الا بالانفتاح على الآخر، فهي حاضنة لتنوع هائل في داخلها، احتضنت اليسار حين لوحقت احزابه ومحازبيه بالاغتيال والطرد من الجنوب، في ثمانينات وبداية تسعينيات القرن الماضي، احتضنت الفلسطينيين الهاربين من بطش النظام السوري، زمن الوصاية على لبنان، او خلال الثورة السورية، والبعثيين العراقيين الملاحقين من اكثر من جهة، والاف العائلات الجنوبية، التي استوطنت المدينة واستقرت فيها جيلا بعد جيل.

صيدا المدينة المقاومة

يبقى انه يسجل لهذه المدينة، مما يسجل في تاريخها الوطني والنضالي، انها المدينة التي شهدت من جامع الزعتري، اول اعلان لتبني المقاومة الشاملة ضد الاحتلال، بشكل علني ورسمي، بحضور اطياف وشخصيات واحزاب، مثلت كل الجنوب اللبناني في اواخر العام ١٩٨٣.

صيدا ضد الإستكبار

مرض “حزب الله” السياسي وعلّته الايديولوجية هي في ما يدعي محاربته، اي الاستكبار، وهو المصطلح الذي طالما كرره، ولا يزال في مواجهة الأعداء، لكنه ابرع من تلبس الاستكبار واتقن فعله، ومارسه ولايزال، تجاه كل مختلف معه.

مشكلته في صيدا هي الاستكبار والاستعلاء، الذي يدفعه الى الاعتقاد ان ازاحة اسامة سعد واضعافه، تفتح له الطريق الى الاستحواذ الكامل على المدينة، بعد انكفاء “تيار المستقبل” عن العمل السياسي.

زيارة بهية الحريري ونجلها احمد امس لمنزل اسامة سعد، تعبر عن روح المقاومة الفعلية لمدينة صيدا، العصية على الاستتباع والالغاء.

اخترنا لك