بقلم د. ميشال الشمّاعي
@DrMichelCHAMMAI
مقتضيات الحياة الكريمة للدّول واضحة ومعروفة وأوّلها المبدأ السيادي. ولا يمكن لأيّ دولة في العالم أن تحيا بالتّشارك السيادي. فالسيادة كلّ من كلّ لا تُجتزأ. وفي حال تمّ اجتزاؤها يعني ذلك حتمًا الموت السريري للدولة. وهذا ليس رأي سياسيّ، أو تمنيات، بل توصيف لما نعيشه في بلد بات يشبه كلّ شيء إلّا دولة حقيقيّة تستطيع أن تؤمّن لأبنائها أبسط مقوّمات العيش الكريم. فهل يستطيع اللبنانيّون استعادة المبدأ السيادي لدولتهم؛ أم هم حتمًا أمام واقع جديد يفرض عليهم البحث في دولة جديدة؟
هل سقطت السرديّات السياسيّة اللبنانيّة؟
الاستعصاء السياسي أكثر من واضح في لبنان لأنّ عربة الدّولة يجرّها حصانان باتّجاهين متعاكسين. فالصراع السياسي اليوم الذي لطالما كان من طبيعة طائفيّة مذهبيّة إثنيّة حضاريّة تحوّل إلى صراع بين مشروعين حضاريّين، تنضوي تحت سقفهما مختلف المكوّنات الحضاريّة للشعب اللبناني. فلبنان اليوم لبنانان. هذه هي الحقيقة. ولا يمكن إنكارها أو التّغاضي عنها بهدف الحفاظ على سرديّات من مثل العيش المشترك والتعايش واتّفاق الطّائف والمناصفة ولبنان الرّسالة و…
هذه السرديات السياسيّة صالحة لا تموت. لكنّ الأرض التي أنبتِت فيها باتت عقيمة. لم تعد منتجَة. فنحن لا نريد التّعايش بل نريد العيش معًا. ولا نريد اتفاق الطّائف من دون تطبيقه بل تطويره وتحديثه ليتلاءم مع الصيغة الحضاريّة التي منها يتكوّن المجتمع اللبناني. ولا نريد المناصفة المهدّدة كلّ آن بالعدديّة الديموغرافيّة المسلّحة؛ هذه المناصفة التي لا يسمَح بتطبيقها إلّا إذا أُخضِعَت فيها التّعدديّة للعدديّة بالذميّة الترغيبيّة والتهديديّة. بل نريد مناصفة حقيقيّة يكون فيها جناحا لبنان الحضاريّان متساويين ليحلّق لبنان الدّولة نسرًا فوق أرزات الرّبّ.
أمّا لبنان الرّسالة فلا نريده على حساب وجودنا الحرّ في هذا الشرق، وحضورنا الفاعل في دولة كاملة السيادة، واستقلالها غير منتقصٍ، وحرّيّتنا فيها مقيّدة. بل نريد لرسالتنا في لبنان، رسالة المحبّة، هي بحدّ ذاتها أن تكون عنوانًا لرسالته. لا تلك الرّسالة التي تبشّر بالقتل وتمجّد بهذا النّهج من الحياة تحت مسمّيات إيديولوجيّة مختلفة، عمادها شهادة الموت للموت. وشتّان ما بين الشهادة للكلمة وللحقّ وللحقيقة بفيض من الرّوح الإلهي، والمكلّلة بالحبّ الإلهي؛ وما بين شهادة الموت ومكتسباتها الغرائزيّة!
مشروعان متناقضان
هذا النّفق المسدود الذي دخلنا فيه منذ أكثر من نصف قرن لن نتمكّن من الخروج منه إلّا إذا اعترفنا بهذين المشروعين المتناقضين. لأنّهما رافقا قيام الدّولة في لبنان منذ لحظتها الأولى تحت مسمّيات حضاريّة مختلفة، وإن نقّبنا في تاريخنا البعيد والقريب نجد الكثير من الوقائع التي تثبت صحّة هذه النّظريّة منذ زمن فخر الدّين والتّنّوخيّين ويوسف بك كرم وزمن المقدّمين حتّى المفتي عبد الحسين شرف الدّين ومجازر عين إبل وليس انتهاء بالحرب البغيضة التي أنتجت ما أنتجته. ومَن يعرف إن قد تكون هذه الأيّام التي نعيشها هي آخر أيّام هذا الصراع؟!
إنّ إشكاليّة المكوّنات الحضاريّة للتركيبة المجتمعيّة اللبنانيّة تكمن في تربّص هذه المكوّنات بعضها ببعض، وسوء استخدام عامل التفوّق الذي قد تحقّقه مجموعة على أخرى، على قاعدة سوء الأمانة. لقد أساءت بعض هذه المجموعات أمانتها الحضاريّة، إن كان بحقّ نفسها حينًا، أو بحقّ سائر المجموعات المكوّنة للنسيج الحضاري اللبناني أحيانًا أُخَر. لذلك، لا بدّ من إيجاد الضمانة الحضاريّة التي يجب أن تنطلق من تثبيت المسافة الآمنة بين المكوّنات الحضاريّة. تمامًا كالمثال الذي استخدمه “شوبنهاور” عن القنافذ التي تشعر بالبرد شتاءً وعندما تتلاصق لتتدفّأ تشوّك بعضها بعض، وإن تباعدت تشعر بالبرد. لذلك، غرائزيًّا أوجدت المسافة الآمنة بعضها بين بعض بشكل أن تبقى دافئة ومن دون أن تعرّض بعضها للأذيّة من أشواكها.
وهذه المسافة الآمنة لا يحدّدها فقط نظام سياسي قاعدته الانطلاق من التركيبة المجتمعيّة، بل يجب الرّكون إلى قناعة حضاريّة لن نستطيع الوصول إلى تحقيقها إلّا بالمساواة. وأيّ عامل تفوّق، مهما كان، يجب أن يكون تحت سقف القانون في الدّولة، كي لا يتمّ إساءة أمانته. فالتفوّق العلمي أو المجتمعي أو الفكري ليس حكرًا على أحد. والتفوّق العددي الديموغرافي سقطت قاعدته بتكريس المناصفة الحضاريّة، لكن الإساءة تكمن في تطبيق هذه المناصفة، وتحويرها بفعل تفوّق إمتلاك السلاح الذي مكّن المجموعة الشيعية من السيطرة على القرار السيادي في البلد. ولإدراك قياديّيها استحالة تعديل الدّستور اللبناني لصالحها، هي تعمل على تكريس أعراف دستوريّة، عملًا بالمبدأ القائل العرف أقوى من القانون.
ما بين المسافة الآمنة أو المساحة الآمنة
أمام هذا الواقع، لا يمكن التّغاضي عن العامل الديموغرافي الذي إن لم يستطع القانون وضع حدّ له سيصبح في نهاية المطاف هو الحاكم. ولنا في أمثلة التّاريخ العديد من التّجارب، وليس آخرها الوجود المسيحي في بعض الدّول العربيّة الذي انحسر مع التّاريخ حتّى الاضمحلال، حيث لم تعد تنفع السرديّات القانونيّة والدّستوريّة – التنظيميّة للحفاظ على هذا النّسيج المجتمعي. عندها فقط يلجأ المضطَهَدون أو المهمّشون سياسيًّا إلى الانفصال والاكتفاء بما تبقّى لهم من مساحة آمنة لأنّهم لم يستطيعوا إيجاد المسافة الآمنة مع الآخر المختلف عنهم حضاريًّا.
من هذا المنطلق، اللبنانيّون جميعهم مدعوّون اليوم للبحث في مسألتين لا ثالثة لهما:
ـ إمّا البحث عن المسافة الآمنة وتثبيتها في صلب الدّستور للحفاظ على دور لبنان الحضاري؛
ـ إمّا إيجاد المساحة الآمنة للبنانيّين كلّهم ليبقى للبنان دور حضاريّ ما وسط هذا الصراع الحضاري القاتل.
والخطير في ما يعيشه لبنان كيان 1920 اليوم أنّ هذا الانقسام بين مشروعين حضاريّين متناقضين لم يعد يقتصر في كلّ شقّ منه على حضارة، بل صار كلّ قسم منه يضمّ مختلف المكوّنات الحضاريّة في دلالة واضحة على الاختلاف بين طبيعة هذين المشروعين الحياتيّة. هذا التّعارض بات اليوم على ثنائيّة الحياة في صلب هذين المشروعين.
مشروع يمجّد الموت ويعتبر الشهادة لمناصرة مَن تربطهم به مصالح إقليميّة عزّة وكرامة ووطنيّة، ويرى في الذين ينضوون في المشروع الثاني بأنّهم قوم يمتازون بالفسق والمجون، ويعتبرهم عملاء لسفارات الخارج، ومرتهنين للمشاريع الدّوليّة، ولا يوفّر في أدبيّاته السياسيّة وحتّى تلك الاجتماعيّة لحظة يخالفونه أيّ رأي باتّهامهم بالخونة والعملاء.
أمّا المشروع الثاني فلا يؤمن سوى بلبنان وبالشهادة حتّى الاستشهاد من أجل الحياة في لبنان. لا تربطه في أيّ خارج أيّة مشاريع أو ارتباطات إيديولوجيّة، بل تقتصر ارتباطاته بالعلاقات الندّيّة، وينظر إلى الفريق الآخر بعين الرّحمة والغفران. يتعاطف مع المغلوب على أمرهم في مجتمعه، ولا يفرض قناعاته الثقافيّة والفكريّة والحضاريّة، بل يكتفي بعيشها، لا بل يناضل بكلّ ما أوتي من قوّة ليحياها.
إمكانيّة البحث عن مشروع جديد للإشكاليّة الهويّاتيّة
البحث اليوم عن مشروع ضامن للوجود الحرّ وللحضور الفاعل بين هذين المشروعين، بات صعبًا كي لا نقول مستحيلًا، لأنّ أصحاب المشروع المرتهن لثقافة الحرب والموت والارتهان الإيديولوجي لمذهبيّة ولاية الفقيه ولمبدأ الإمامة الإلهيّة يعلنون دومًا عكس ما يضمرون، وهم لا يوفّرون أيّ فرصة لإخضاع أصحاب المشروع الكياني. وبعدما أدركوا أن لا قدرة لديهم في السياسة، وبعد فشلهم في عرقنة لبنان، بعد سقوط مشروع سورنته وبعثنته، ولأنّ جلّ اعتمادهم على السلاح غير الشرعي، عادوا ليهوّلوا بتغليب العدديّة على التعدّديّة.
وعتبنا ليس على قادتهم بل على النّاس المغرّر بهم، أو أولئك الذين تمّت أدلجتهم حتّى وصلوا إلى حدّ عبادتهم. ولعلّ أبرز ما قاله شيشرون في أحد خطاباته لأهل روما: “لا تلقوا باللوم على قيصر، لوموا أهل روما الذين أشادوا به وعبدوه بحماسة شديدة، وفرحوا بفقدانهم للحرّيّة، ورقصوا في طريقه، وأعطوه مواكب النّصر”. سيفرح هؤلاء من جديد بالحرّيّة! وسيسقط قيصرهم لأنّه ليس أعظم من قيصر روما!
إشكاليّتنا باتت هويّاتيّة مع هؤلاء الذين يريدون لبنان وفاقًا لقناعاتهم الإيديولوجيّة. حتّى العلمنة وإلغاء الطائفيّة السياسيّة والسلاح، هذه كلّها لن تقدّم الحلّ للإشكاليّات الهويّاتيّة، لأنّ الخلاف بات على القضايا السياسيّة الكبرى وليس على طبيعة النمذجة الهويّاتيّة لإلغاء هذه الطائفيّة.
خلاصنا في خلاصتنا
أمام هذا الواقع الذي وصلنا إليه بعد فشل بلغ من العمر قرنًا ونيّفاً من الزّمن في محاولة لاستيلاد دولة ووطن وهويّة مشترَكَة تقوم على المشتركات والمسلّمات والوطنيّات، لا بدّ من قول الحقيقة مهما كانت صعبة، فمَن يؤمن بلبنان الحياة مدعوّ للانخراط في هذا النّموذج حتّى تغليبه على نموذج الموت. ولأنّنا نحن والحقّ والخير والجمال أكثريّة، يقيننا أنّ الخير سيغلب الشرّ، لأنّ الروح الذي يدير هذا الكون هو نور من نور، وهو الخير المطلق.
ولأنّ حياتنا في لبنان 1920 كانت قائمة على هذه الثنائيّة التّعارضيّة وفشلت، يجب تحويلها إلى ثنائيّة تطابقيّة لأنّ لبناننا يتّسع للمؤمنين بهويّته الكيانيّة لننجح في لبنان جديد قابل للحياة. أمّا إن فشلنا، ويقيننا أيضًا أنّ هذا الفشل سيكون مرحليًّا، لأن لا أحد يستطيع في الكون أن يوقف مسار الحياة، نحن مصرّون على متابعة هذا المسار لأنّنا أبناء القيامة. ومَن يجرؤ… فلينضمّ!