بقلم زكي طه
انتهت جولة من المفاوضات المفترضة بين اسرائيل وحركة حماس، والتي ترعاها الولايات المتحدة الاميركية بالشراكة مع الوسيطين المصري والقطري. وصدر عن الدول الثلاث بيان يشير إلى تقدم بشأن الاتفاق على وقف اطلاق النار وسيتابع البحث الاسبوع الذي يلي. لم تختلف هذه الجولة عن سابقاتها التي تكررت طوال الاشهر الماضية بين القاهرة والدوحة، بالتزامن مع مسارات الحرب الاميركية الاسرائيلية المفتوحة منذ اكثر من عشرة أشهر.
وما يميّز هذه الجولة، ليس بيان الدول الثلاث، ولا الاتهامات المتبادلة حول المسؤولية عن فشلها، بل موجة القلق والخوف العارم في المنطقة والعالم من خطر انفجار حرب شاملة تتجاوز ما يجري على ارض فلسطين لتطال سائر البلدان المجاورة لها عربياً وإقليمياً، والمعنية بالحرب الاسرائيلية المتشابكة مع أزماتها المتفجرة منذ سنوات طويلة. علماً أن عوامل خطر الانفجار الشامل، تشكلت عبر مسار تراكمي من التصعيد على سائر جبهات الحرب، داخل فلسطين وعلى سائر جبهات إسناد غزة التي تديرها إيران، في لبنان واليمن والعراق.
وآخرها كانت جولة التصعيد السياسي والميداني التي سبقت ورافقت زيارة رئيس حكومة العدو إلى واشنطن، في موسم الانتخابات الرئاسية الاميركية. وهي التي بلغت ذرىً غير مسبوقة بالعلاقة مع نتائج محادثاته مع الادارة الحالية، ولقاءاته مع مرشحي الحزبين المتنافسين للفوز بالرئاسة، وعلى دعم اسرائيل وتبني أهداف حربها في آن. وأكدتها ردود الفعل حول ما تضمنه خطاب نتنياهو امام مجلسي الشيوخ والنواب الاميركيين، والتعهدات المتبادلة لتحقيق الأهداف المشتركة على صعيد سائر قضايا وأوضاع المنطقة في اطار استراتيجية السيطرة والهيمنة الاميركية وحول الشأن الفلسطيني.
جرى ذلك على وقع الامعان بتنفيذ مجازر الإبادة البشرية وعمليات التدمير في قطاع غزة، بالتوازي مع تزايد اعتداءات المستوطنين والمداهمات والملاحقات التي يقوم بها جيش الاحتلال في الضفة الغربية. وبالتزامن مع تصعيد المواجهات على سائر جبهات المساندة. وفي السياق حدثت مجزرة بلدة مجدل شمس في الجولان السوري المحتل. التي فرضت على نتنياهو العودة من واشنطن، لمعالجة فشل وزراء حكومته وقادة الجيش في التنصل من المسؤولية عنها وعجزهم عن استغلالها لاثارة الفتن الطائفية. وللتغطية، تعمّد رئيس حكومة العدو تصعيداً استثنائياً تمثل باغتيال المسؤول العسكري الأول لدى حزب الله، في ضاحية بيروت الجنوبية، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس في طهران بعد مشاركته احتفال تنصيب الرئيس الايراني الجديد.
كان من الطبيعي أن يعلو ضجيج التهديدات، من قبل قادة ايران وحزب الله، بالردود المزلزلة على الاغتيالات، وتكرار لازمة الحرص على عدم حصول حرب شاملة. ولم تكن مستغرباً أن يترافق الاستنفار الاسرائيلي غير المسبوق بالتهديدات ورسائل التحذير من مخاطر الردود المحتملة.
الدور الاميركي
وكما في سائر محطات الحرب الاساسية، وجدت الادارة الاميركية التي تدير وتشرف على سائر جبهات الحرب، الفرصة مؤاتية لوضع ايران وقوى محور المقاومة أمام تحديات حرب شاملة. ولذلك سارعت إلى تنفيذ أضخم عملية تحشيد لآلة الحرب الاميركية من بوارج وحاملات واسراب الطائرات والغواصات والاساطيل، بالاضافة إلى تعزير قواعدها العسكرية في المنطقة. وإلى رفع مستويات الضغط على ايران، وعلى قوى معارك المساندة، ومحاولي الدفع بها جميعاً نحو التراجع. هكذا كان الامر مع التهديدات الاميركية التي فرضت على القيادة الايرانية التعهد بعدم الدخول في الحرب المعلنة. وكذلك عند قبولها برد رمزي على تدمير اسرائيل للقنصليتها في دمشق، وفي التزامها عدم الرد على عمليات القصف الاميركي والاسرائيلي لمراكز الحرس الثوري والميليشيات التابعة له في سوريا..
كما سارعت أيضاً لتشكيل أوسع جبهة ضغط سياسي وعسكري دولي وإقليمي لمحاصرة إيران تحت راية الدفاع عن اسرائيل وحمايتها، وفق ما ورد في البيان الاميركي المشترك مع فرنسا وبريطانيا وألمانيا وايطاليا. والهدف تزخيم الضغوط للحؤول دون تنفيذ تهديدات أيران وحزب الله بالرد على الاغتيالات، ومحاولة دفعهما لصرف النظر عنها.
ولذلك لم تتأخر الادارة الاميركية في الاعلان عن موعد جولة جديدة من المفاوضات لوقف الحرب في قطاع غزة، باعتباره شرط لوقف العمليات على جبهات معارك المساندة. سعياً منها لتحميل ايران وحزب الله مسؤولية تعطيل المفاوضات والتسبب في حالة الرد بإنفجار حرب شاملة، يتسابق الجميع على تأكيد الحرص بعدم حصولها كل لاسبابه الخاصة. باستثناء الحكومة الاسرائيلية التي يسعى رئيسها بكل الوسائل لاطالة أمد الحرب ضد حقوق الشعب الفلسطيني، وتحت راية الأهداف المعلنة لها والمتمثلة برفض حل الدولتين، وتحصين ذلك باستكمال تدمير قطاع غزة، ومحاصرة وتفكيك السلطة الفلسطينية والاجهاز على ما تبقى من اتفاق اوسلو، وعبر رفض اي دور لها في إدارة قطاع غزة ومعبر رفح وعدم اشراكها في أية مفاوضات تتعلق بالشأن الفلسطيني.
ولا يختلف الموقف الاسرائيلي حيال حركة حماس التي تثابر على المطالبة بوقف الحرب والانسحاب الشامل من القطاع وإعادة الاعمار. مستندة إلى ورقة الاسرى والصمود الاسطوري للشعب الفلسطيني وتضحياته التي تفوق الوصف. في موازاة الرهان على فعالية جبهات المساندة، ومطالبة الادارة الاميركية والوسيطين المصري والقطري بالضغط على الحكومة الاسرائيلية، التي لا تتجاهل تلك المطالب وحسب، بل تتعمد تباعاً بدعم ورعاية اميركية لا يحتملان الالتباس، تصعيد شروطها للاتفاق على وقف مؤقت لاطلاق النار، بقوة استمرار الحرب وعبر استغلال التواطوء الدولي والعجز العربي المفرط.
ويبقى الاهم بالنسبة لاسرائيل ومعها الادارة الاميركية، الاستفادة من انقسام القوى الفلسطينية وعجزها عن توظيف التعاطف الدولي والعزلة الاسرائيلية من جهة. واستغلال معارك المساندة من جهة ثانية لتبرير استمرار الحرب، ومواصلة عمليات القتل والمجازر اليومية بحق الشعب الفلسطيني وفي استكمال تدمير مقومات الحياة لديه في قطاع غزة والضفة الغربية على السواء. ومتابعة عمليات المطاردة والاغتيالات التي تطال قيادات وكوادر حركة حماس وسواها في الداخل والخارج، كما كان الامر مع المئات من قيادات فصائل منظمة التحرير.
تراجع خطر الانفجار الشامل
وبصرف النظر عن سيل التحليلات التي رافقت عمليات الاغتيال، والحشود العسكرية، والتهديدات المتبادلة والتحذيرات من حرب شاملة. يبقى الأهم نتائج التصعيد الاسرائيلي الميداني المستمر في قطاع غزة والضفة الغربية وعلى الجبهة اللبنانية. ومفاعيل الضغوط الاميركية والدولية المستمرة بشتى الوسائل والصيغ، على ايران عبر مختلف الوسائط، والتي نال لبنان وحزب الله قسطاً أساسياً منها. تمثل بزحمة موفدي الخارج ورسائل التهديد والتهويل، ودعوات المغادرة للرعايا العرب والاجانب ووقف شركات الطيران رحلاتها إلى مطار بيروت. أما المحصلة فهي تراجع خطر انفجار حرب شاملة كما تؤشر معظم المعطيات، دون أن يعني ذلك وقف الحرب القائمة، أو صرف النظر عن تنفيذ التهديد بالرد، الذي بات من المرجح أن يكون تحت السيطرة.
والأمر مرده أن الادارة الاميركية التي تتولى القيادة الفعلية للحرب، أنها وبقوة التزخيم المتمادي للخلل في ميزان القوى، على الصعيدين السياسي والميداني، وعبر التشدد في محاصرة إيران دولياً وإقليمياً على أكثر من صعيد، وفي ظل الصراع القائم على السلطة. ومن خلال استغلال عوامل الانقسام التي تحاصر فئوية وتفرد قوى معارك المساندة، وأدوارها التي تعرض بلدانها لمخاطر التفكك والدمار. قد تمكنت بالتنسيق مع الدول الاوروبية الرئيسية، من محاصرة ايران وقوى معارك المساندة سواء على الصعيد السياسي أو الميداني، وفرض مسار تراجعي تمثل بشكل اساسي في تعديل قواعد الاشتباك لمصلحة اسرائيل، وتمكينها من استعادة زمام المبادرة وقدرة التصعيد على سائر الجبهات، التي كانت قد فقدتها على نحو فادح في الاشهر الاولى من الحرب.
وفي هذا الاطار تكمن خطورة الدور الاميركي في المنطقة وحيال القضية الفلسطينية أولاً وأساساً، والذي يهدف رغم الخلافات المدعاة مع اسرائيل، والخسائر الفادحة التي منيت بها، وما هي فيه من صراعات وخلافات سلطوية، إلى تمكينها من متابعة الحرب. يشهد على ذلك عدم توقف صفقات السلاح والدعم السياسي والدبلوماسي والامني والمالي، من أجل تعزيز قدرتها لتحقيق اهدافهما المشتركة على سائر الجبهات، بما فيها التي كرسها تصويت الكنيست حول رفض حل الدولتين، ورفض إي دور لحركة حماس او السلطة الوطنية في قطاع غزة، ومحاولة العودة بقضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية إلى ما قبل الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً له، واستغلال المنازعات على التمثيل الفلسطيني بين قواه ومرجعياتها الايرانية والتركية والوسطاء العرب، وما يزيد في خطورة الوضع أن الوحدة والقرار الوطني المستقل باتا طموحاً عزيز المنال.
التحديات الصعبة
من الواضح أن الإدارة الاميركية، وخلافاً لأوهام ورهانات البعض وهم كثر، ليست بوارد الضغط على اسرائيل أو دفعها للتراجع عن أهداف الحرب. مقابل ما تمارسه من ضغوط ليس على الفلسطينيين وحسب، بل حيال الوضع العربي برمته ومن شتى بوابات أنظمته وقواه المأزومة. سواء الباحثة منها عن ضمانات اميركية وادوار تحت رعايتها، أو الغارقة في مستنقع الحروب الأهلية التي تدار عبر التدخلات الخارجية بإدارة اميركية. ولا تختلف عنها قوى المقاومة ذات الطبيعة الطائفية والفئوية المكلفة من قبل مرجعيتها الايرانية خوض معارك المساندة، على نحو لا يفيد القضية الفلسطينية بقدر ما يعرض بلدانها لخطر الدمار، في ظل التفكك البنيوي الخطير على صعيد تشكيلاتها المجتمعية التعددية، الذي يهدد مستقبل وجودها ومصير مجتمعاتها تحت وطأة التهديدات الخارجية وفي ظل تبديد ما تبقى من مشتركات جامعة وطنياً وقومياً فيما بينها.
مما لا يفيد فيه مطلقاً بالنسبة لقوى الاعتراض، استحضار شعارات ومقولات من تجارب ومحطات سابقة، وفي غير سياقها سواء لتغطية مأزق مشاريعها الفئوية ومغامراتها الانتحارية، أو لتبرئة الذمة حول مسؤولياتها عن فشل تلك التجارب، ومتابعة الهروب من الاسئلة الصعبة حول التحديات المصيرية التي تواجهها بلدان المنطقة وشعوبها، امام ما هي فيه راهناً من مآسٍ ونكبات وانهيارات وصراعات اهلية، يكاد لا ينج من ويلاتها أي منها، بدءاً من فلسطين في غزة والضفة ودول الشتات، مروراً بلبنان وما يتهدده من مخاطر راهنة تضعه في عين العاصفة، وصولاً إلى أوضاع سائر البلدان العربية، على نحو لا يفيد فيه التبسيط والضجيج الاعلامي، واستسهال اعلان الانتصارات وفشل اسرائيل وأميركا، كما لا يمكن تبرير الاستهانة والاستخفاف بالمخاطر القائمة والزاحفة.