كتب منير الربيع
أصبح مسار الدول الساعية إلى منع حصول تصعيد كبير في المنطقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، واضحاً، وهو إبقاء المفاوضات والمباحثات قائمة على الرغم من عدم تحقيق تقدّم. وصل الأميركيون إلى ما يشبه الاتفاق مع إيران بأن يبقى الردّ مؤجلاً طالما أن المفاوضات قائمة، وكي لا تتهم إيران بأنها التي أسهمت في عرقلة الاتفاق أو تفجير الأوضاع. المعادلة نفسها يحاول الأميركيون تكريسها مع حزب الله، الذي لا يزال يؤكد استعداده للردّ، لكنه تأجل أيضاً كي لا يكون سبباً في إجهاض المفاوضات.
إيران والحزب
كل الجولات التفاوضية منذ اجتماع الدوحة إلى المباحثات التقنية في القاهرة التي عقدت أواخر الأسبوع الفائت، أو تعقد حالياً، بالإضافة إلى جولة المفاوضات التي ستعقد الأحد.. كلها بهدف لجم التصعيد، وإبقاء المواجهات عند حدودها الحالية، على الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يواصل عملياته في غزة وفي لبنان. كل محاولات الوصول إلى وقف إطلاق النار تبدو متعثّرة. وهذا ما يعرفه حزب الله جيداً، الذي يعتبر أن الأميركيين يواصلون التسويف في سبيل امتصاص الردّ الإيراني. ولذلك يصرّ الحزب على التذكير في كل مواقف قياداته بأنه لا يزال يتمسك بالردّ على استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت.
في مقابل تأكيدات الحزب حول التزامه بالردّ، تدور معطيات ديبلوماسية أخرى تفيد بأن الحزب يتماهى مع الإيرانيين، حول تأجيل هذا الردّ، بناء على نصائح دولية وروسية وصينية بالتحديد، تشير للإيرانيين والحزب إلى ضرورة عدم الانخراط في مواجهة أوسع، وعدم السماح لنتنياهو باستدراجهما إلى حرب هو يريدها، ويسعى للاستفادة من الأساطيل والبوارج العسكرية والحربية الأميركية لتوسيع الحرب.
دور قطر
في المقابل أيضاً، تقول مصادر ديبلوماسية عربية إن الإدارة الأميركية مقتنعة بأن نتنياهو لا يريد الوصول إلى اتفاق وقف لإطلاق النار، وأنها غير قادرة على الضغط عليه لاتخاذ موقف معاكس. وهذا ما تجلّى في موقف وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، الذي حمّل حماس مسؤولية عرقلة الاتفاق. وبذلك بدا بلينكن وكأنه يمنح الغطاء السياسي اللازم لنتنياهو. ولكن في مواجهة الغطاء الأميركي لنتنياهو لمنع التصعيد، هناك تشدد في منعه بتوريط المنطقة بحرب كبرى، على قاعدة أن الموافقة على عرقلة المفاوضات لا تعني الموافقة أو إعطاءه ضوءا أخضر لتوسيع نطاق عملياته لا ضد لبنان ولا ضد إيران.
في إطار المزيد من المحاولات لمنع التصعيد، يبقى هناك رهان على دور دولة قطر، التي تستمر في التواصل مع طهران، وصولاً إلى الزيارة التي سيجريها رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى العاصمة الإيرانية، في إطار السعي مع المسؤولين إلى عدم اعطاء أي فرصة لنتنياهو كي يوسّع من نطاق الحرب.
التشبث الإسرائيلي
ولكن أمام كل هذه المساعي، لا تزال الساحة اللبنانية تضج بأخبار متناقضة حول احتمالات التصعيد وحصوله قريباً، لا سيما أن نتنياهو يواصل عملياته وضرباته لاستفزاز الحزب أكثر، ودفعه إلى الردّ، فتتحول المواجهة إلى أيام قتالية.
بعض هذه الأخبار والإشارات يتم التداول بها في الكواليس اللبنانية، نقلاً عن جهات غربية تبدي تخوفها من انفلات الأوضاع.
ومما تشير إليه هذه الجهات هو أن مسار التفاوض يصطدم بالتشبث الإسرائيلي، وبعدم الموافقة على تقديم تنازل أو إبداء ليونة، وطالما بقيت الأمور مقفلة على المستويين السياسي والديبلوماسي فإن احتمالات التصعيد تبقى قائمة في الأيام المقبلة. وبعض المصادر الديبلوماسية تشير إلى أن تل أبيب تمتلك بنك أهداف لحزب الله في لبنان. وهو يضم مراكز ومخازن أسلحة وصواريخ. وأن هناك إصراراً على استهدافها كما حصل قبل فترة في عدلون، أو قبل أيام في البقاع. وأنه في حال كثف الإسرائيليون من هذه العمليات، فذلك سيسهم في إحراج الحزب أكثر واستدراجه إلى ردود من النوع نفسه، ما يضع المنطقة على شفير توسيع الحرب.
تتضارب وجهات النظر حول هذه الضربات الإسرائيلية وبنك الأهداف الذي تم تحديده. فبعض وجهات النظر تشير إلى أن الهدف الإسرائيلي من تصاعد هذه الضربات، ناتج عن قناعة أن حزب الله وإيران لا يريدان الانجرار إلى تصعيد أو حرب. وبالتالي، تعمل إسرائيل على ضرب الأهداف التي تريدها. وذلك في إطار تكوين صورة توحي باستعادتها لمنظومة الردع من جهة، وتحقيق أهداف عسكرية مهمة قبل الوصول إلى أي وقف لإطلاق النار أو انتهاء الحرب.
وجهات نظر أخرى تطرح تساؤلات حول احتمال أن تكون هذه الضربات لمواقع ومخازن أسلحة هي عمليات استباقية تحسباً لأي تطورات قد تحصل في المرحلة المقبلة، وفي حال اتجهت الأمور نحو حرب بين إسرائيل والحزب، تكون إسرائيل قد عملت على ضرب الكثير من مراكز القوى لدى حزب الله.
معبر رابع في غزة
على ضفة المفاوضات، يبدو واضحاً التمسك الإسرائيلي بالبقاء في محور فيلاديلفيا ومعبر رفح ومعبر نتساريم، وسط مؤشرات تفيد بأن الإسرائيليين سيعملون على خلق معبر جديد، هو معبر كيسوفيم. وسيكون مشابهاً لمعبر نتساريم، يشق قطاع غزة بالعرض، أي يفصل مناطق جنوب غزة عن وسط القطاع ومدينة غزة. في المقابل، هناك رفض فلسطيني وعربي لبقاء القوات الإسرائيلية في تلك المناطق.
الجولات في القاهرة لم تصل إلى أي حلّ، خصوصاً أن نتنياهو يتمسك بإبقاء السيطرة على المعابر والمحاور. في المقابل، يبرز إقتراح قديم يعود الحديث عنه في كواليس المفاوضات، هو إعادة البحث بتشكيل قوات “مشتركة”، يمكن أن تكون أممية مشكّلة من دول عربية وغير عربية تسيطر على معبر رفح، ومحور فيلادلفيا ومعبر نتساريم. ولكن هناك صعوبة في الوصول إلى اتفاق حول هذه الصيغة، نظراً لعدم بروز موافقة جدية لدى دول عربية حول هذا الأمر، ونظراً لعدم إبداء موافقة إسرائيلية. علماً أن بعض الدول تبدو مقتنعة بأنه لا بد من إنتاج اتفاق دولي في غزة مشابه للاتفاق على القرار 1701 الخاص بلبنان.
حتى الآن لا اتفاق على هذه الصيغة، التي تحتاج إلى إقرار من قبل مجلس الأمن الدولي. ومن غير المعروف إذا كان هذا القرار سيقر تحت الفصل السابع أو السادس، وما هي صلاحيات هذه القوات، وأي دول ستشارك فيها. هنا أيضاً لا بد من التذكير في تجربة مماثلة رفضتها إسرائيل أيام رئاسة باراك أوباما، عندما اقترح وزير الخارجية آنذاك جون كيري بالعمل على إدخال قوات دولية إلى غور الأردن، لكن نتنياهو رفض. وبعدها اقترح الأميركيون إدخال قوات أميركية فقط، فكان جواب نتنياهو بأنه لا يضمن أمن إسرائيل إلا جيش إسرائيل.
تعنّت نتنياهو اليوم وإصراره مواصلة الحرب أو توسيعها يشير إلى أنه لن يوافق. وبالتالي، فإن المنطقة تنتظر تغيرات كبرى في ظروف الحرب واستمراريتها.