كتبت بلقيس عبد الرضا
رغم انخفاض نسبة التضخم في الأشهر الأخيرة، إلى ما دون 100 في المئة للمرة الأولى منذ أربعة أعوام، وتسجيلها ما يقارب من 70.4 في المئة بحسب مركز الإحصاء المركزي، إلا أن ذلك لم ينعكس على أسعار الغذاء في لبنان، والتي شهدت ارتفاعات تفوق قدرة اللبنانيين على تحملها. والحديث هنا، ليس فقط عن اللبنانيين من أصحاب الميزانيات الضعيفة أصلاً، إنما أيضاً عن الذين يتقاضون رواتبهم، أو جزءاً منها، بالدولار.
وبحسب جمعية حماية المستهلك في لبنان، فإن أسعار السلع والخدمات الأساسية لا تزال ترتفع بشكل مستمر، منذ سنة تقريباً رغم استقرار سعر صرف الدولار في محيط 89 ألف ليرة. وقد ارتفع مؤشر أسعار الغذاء بمعدل 8.3 في المئة، بالنسبة للفصل الأول من العام 2024.
تنسجم تلك الأرقام مع أرقام مديرية الإحصاء المركزي التي تفيد بارتفاع أسعار الاستهلاك قرابة 42 في المئة خلال عام، بين حزيران 2023 وحزيران 2024. وهي الفترة الزمنية التي شهدت استقراراً غير مسبوق بسعر صرف الدولار مقابل الليرة.
من هنا تنعدم المبرّرات لارتفاع أسعار السلع الغذائية، فكيف يمكن إذا لعائلة لا تزال تتقاضى معدل رواتب ثابت منذ عام تقريباً، أن تتعامل مع هذه الزيادة بالأسعار؟ وبمعنى أكثر دقة، كم تحتاج أسرة مكونة من أربعة أشخاص للإنفاق على بند الطعام فقط على مدار الشهر؟
السلة الغذائية
تحاول هناء أبو صالح اتباع سياسة تقشفية لتأمين السلة الغذائية لعائلتها. تتقاضى ما يقارب 800 دولار بالإضافة إلى راتب زوجها؛ لكن الراتب، وبحسب تعبيرها لا يكفي حتى نهاية الشهر. تنفق أبو صالح ما يقارب 400 دولار تقريباً لتأمين احتياجتها الغذائية.
وتقول لـ “المدن”: في الكثير من الأحيان، لا أجد ثمن ربطة الخبز قبل نهاية الشهر، رغم أنني أسعى جاهدة لضبط النفقات جيداً، والابتعاد قدر الإمكان عن الرفاهية، التي كنا نحصل عليها قبل أعوام، ولا أعني بذلك قبل الأزمة، بل خلالها. تضيف: هذا العام تبدو الأسعار جنونية. ولا أستثني بذلك، أي نوع من أنواع الخضار أو الفاكهة، أو اللحوم، وحتى الحبوب.
تقارن أبو صالح، حجم الإنفاق بين العام 2021 وهذا العام وتقول: “خلال الأزمة الاقتصادية، لم تكن السلة التموينية الشهرية من السوبرماركت تتخطى حاجز الـ100 دولار، أو حتى 120 دولاراً، فيما اليوم لم يعد هذا المبلغ يكفي لشراء الحاجات الأسبوعية، الأمر الذي دفعها إلى تبديل الكثير من العادات الغذائية.
فعلى سبيل المثال، خفضت من الإنفاق على بند اللحوم بعدما وصل سعر الكيلوغرام إلى نحو 20 دولاراً، وبدلاً من شراء كيلوغرام أسبوعياً تكتفي بنصف كيلو، كما بات طبق السلطة لا يحتوي على أكثر من نوعين من الخضار، بسبب ارتفاع الأسعار.
معدل الأجور
لا يخفي الباحث في الدولية للمعلومات، محمد شمس الدين، أن ارتفاع أسعار السلع الغذائية في لبنان لا يتماشى مع معدلات الأجور. ويقول لـ “المدن”: تحتاج أسرة مكونة من 4 أشخاص، إلى ما يقارب من 250 دولاراً شهرياً حتى تتمكن من تدبير سلتها الغذائية بحدود ضيقة جداً، او كما يطلق عليها “تدبير سلة غذائية متقشفة جداً”.
ويضيف: إذا احتسبنا نفقات الماء، والخبز والبيض، فإن العائلة تحتاج ما لا يقل عن 14 مليون ليرة تقريباً، أي نحو 157 دولاراً. ويشير لو تناولت العائلة يومياً ربطة خبز، و6 بيضات للفرد الواحد، فإن ذلك يعني أن عليها شراء 30 ربطة خبز بما لا يقل عن مليون و500 ألف ليرة، أضف إلى ذلك، تحتاج الاسرة إلى 24 بيضة يومياً، ما يعني أن تكلفة شراء البيض فقط تصل شهرياً إلى 9 ملايين و600 ألف ليرة تقريباً.
الغاية من عرض هذه النماذج بحسب شمس الدين، لا تتعلق فقط بإظهار ارتفاع مستوى الأسعار وحسب، بل أيضاً تسليط الضوء على نسب التضخم في لبنان. يشير شمس الدين، إلى أن هناك عوامل تساعد في امتصاص ارتفاع الأسعار بالنسبة لفئة كبيرة من اللبنانيين، إذ يرى أن التحويلات المالية من المغتربين ساعدت في تجنب لبنان الوقوع بكارثة إنسانية واقتصادية لا مثيل لها.
التكلفة الحقيقية
للحصول على ثلاثة وجبات يومياً، بالحدود المعقولة أو المتوسطة، تحتاج عائلة مكونة من أربعة أشخاص إلى ما يقارب من 80 مليون ليرة.
بحسب جولة ميدانية، بالإستناد إلى بعض الأرقام على مؤشر Numbeo للأسعار، تصل تكلفة وجبة الفطور سواء أكانت (حليب، بيض، خبز، وبعض الخضار) أو منقوشة، ما بين 200 و250 ألف ليرة، أي نحو 24 مليون ليرة شهرياً.
أما بالنسبة إلى وجبة الغذاء، فقد يصل سعر طبق السلطة بمكونات بسيطة (خس، بندورة، خيار، بصل) إلى نحو 135 ألف ليرة، أما الوجبة الرئيسية خضار ودجاج وأرز فلا يقل سعرها عن مليون ليرة مع إضافة تكلفة استخدام الغاز، والزيت، ما يعني بالمجمل تحتاج الأسرة يومياً نحو مليون و135 ألف، أي شهرياً 34 مليون ليرة، والعشاء لا يختلف عن الفطور، أي ما يقارب من 24 مليون ليرة، وبالتالي، حتى تتمكن العائلة من تناول ثلاثة وجبات رئيسية بمكونات مختلفة وتضم عناصر غذائية مختلفة، تحتاج إلى ما لايقل عن 80 مليون ليرة، وحتى في أسوأ السيناريوهات، ومع تخفيض الإنفاق في وجبة الغذاء، والإكتفاء أحياناً بحواضر المنزل، أو نوع واحد من الحبوب أو البقوليات، فإن الأمر لا يختلف، ويبقى معدل إنفاق الأسرة مرتفعاً.
تغيير العادات
تشير ابتسام غلاييني وهي ربة منزل تعتاش على راتب زوجها، إلى أن شراء السلع الغذائية بات أشبه بكابوس، فالكثير من عاداتها تبدلت. وتقول لـ “المدن”: لم أعد أملك ترف تمويل البيت شهرياً كما اعتدت على ذلك منذ أكثر من ثلاثين سنة، بل أقوم بجولة التسوق بشكل يومي، لعل الأسعار تهدأ نسبياً.
بالنسبة لغلاييني، فإنها تلمس “ارتفاع أسعار الخضار والفاكهة يومياً، ولا أعلم الأسباب الحقيقية لذلك، بعض الباعة يشيرون إلى ضعف الإنتاج الزراعي، بسبب الحرب، وأن ذلك رفع أسعار البضائع”.
تخشى غلاييني من الأسوأ بحسب تعبيرها، “فمنذ أربعة أعوام، كانت الـ10000 ليرة تكفي لشراء بعض الخضروات، وربطة خبز، ثم تقلصت قيمها إلى أن أصبحت اليوم لا تكفي لشراء رغيف خبز واحد”.
يتبين بعد دراسة هذه المؤشرات، بإن تكلفة العيش في لبنان، تتطلب إما أن يكون المواطن من أصحاب الملايين ليحظى بمستوى معيشي متوسط نوعاً ما، أو من أصحاب المليارات حتى يتمكن من العيش ببحبوحة مادية؛ عدا ذلك، يستحيل على الفقراء في لبنان تأمين لقمة عيش لائقة.