عن مقاومة الإحتلال لا مقاومة النقد

التاريخ نفسه يعلّمنا أن الخوف أو الابتعاد عن النقد، لا يخلّف لنا سوى الهزائم والانكسارات

كتب أحمد عبدالحليم

في الأشهر الأخيرة، حضرتُ ندوتين في بيروت بخصوص حرب الإبادة الحالية على قطاع غزة، الأولى كانت للمفكر والكاتب اللبناني فواز طرابلسي، وكان يناقش فيها حاضر الصراع العربي- الإسرائيلي ومستقبله. أما الثانية، فكانت عرضاً لفيلم “مستشفى الشفاء: جرائم مدفونة”، والذي يوثّق شهادات عاملي مستشفى الشفاء أثناء حصارهم لمدة أسبوعين من قوات الاحتلال الإسرائيلي في شهر آذار/ مارس الماضي (إنتاج شبكة الجزيرة)، وتبعت الفيلم مناقشة مفتوحة مع الطبيب الفلسطيني غسان أبو ستة.

لكني دائماً حين يأتي وقت النقاش المفتوح مع مَدعوّي الندوة، أجد كمّاً غالباً من المداخلات بلا أي جدوى حقيقية، بل وأجد تكراراً لسرديات بعيدة عن الواقع، سرديات تعتمد على التمنّي وأوهام النصر، لا على الحقائق الموجودة. هناك مثلاً أحد الأشخاص، حصر في نقاشه الحرب الحالية كلها في شخص نتانياهو وحده، وتناسى تماماً أن الحرب الحالية على قطاع غزة هي امتداد لتاريخ استعماري احتلالّي، كما امتداد لممارسات الإبادة والعقاب التي تنتهجها إسرائيل بأدواتها القمعية بحق الفلسطينيين.

أيضاً هُناك أحد من الحضور، ادَّعى أن الصهيونية نجحت في ترسيخ سرديتها ومظلوميتها التاريخية، مقارنة بالسردية الفلسطينية التي لم يكتبها أحد، كما يجب، بل وفشل العرب في تسجيلها وحفظها، ما استدعى وقتها غضب المفكر فواز طرابسي، راداً عليه أن فلسطين وقضية احتلالها، هي أكثر قضية كُتب عنها في التاريخ، ونصحه بالقراءة، وأشار له بمؤسسة واحدة فقط، تكفيه للقراءة عن فلسطين وتاريخها وهُويتها واحتلالها لعشرات السنوات، وهي مؤسسة “الدراسات الفلسطينية”.

هذا فضلاً عن المشادات الكلامية، في بعض الأحيان، والتي وصل بعض منها الى حد التطاول الجسدي بين المُتحدثين، بسبب استخدام مفردات، بحسب البعض، تخدم السردية الصهيونية، كمصطلح “دولة”، حين التحدث عن إسرائيل، لأنه يجب استخدام مصطلح “الكيان”، بدلاً من مصطلح دولة. وهذا ربما مفهوم في النقد اللغوي للاستعمار ودولته ومفاهيمه، على أساس عدم الاعتراف به، لكن خلال ندوة نقاشية، نتحدث فيها عمَّا يحدث بشكل واقعي، والواقع يُملي أن إسرائيل هي بالفعل ليست كياناً استعمارياً انتدابياً على فلسطين مثلما كانت بريطانيا على مصر، من أجل مطامع اقتصادية لا أكثر.

إسرائيل هي كيان أسّس دولته، بل وجعل هذه الدولة دولة إحلالية، تستبدل سكاناً بسكان آخرين، وساعدتها في ذلك قرارات الأمم المتحدة، بالإضافة إلى اعتراف دول العالم بها كدولة مستقلة، ناهيك باتفاقيات السلام التي وقعتها في ما بعد مع بعض من الدول العربية، بالإضافة إلى أن حركة حماس نفسها في ميثاقها عام 2017، اعترفت، بشكل ضمني، بوجود دولة إسرائيل على أراضي ما قبل السابع من حزيران/ يونيو عام 1967، وطالبت إسرائيل بتنفيذ قرارات مجلس الأمن، بتخلّيها عن المستوطنات في الضفة الغربية، والسماح بإقامة دولة فلسطينية مستقلة تضم الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية، ما دلَّ على أنها اختارت التعامل مع الواقع المفروض على الجميع، حتى لو كان هذا التعامل سياسياً وبراغماتيا، ولا يتوافق مع مفهوم تحرير الأرض من النهر إلى البحر، كما كان في ميثاقها لسنوات.

عودة إلى أهمية النقد، وأخصه تحديداً في الوقت الحالي، بما أنه وقت حرب إباديّة على أهلنا في قطاع غزة، ومقاومة باسلة شجاعة تقاوم هذا العدوان، مقاومة من أجل البقاء، لكن هل يمكن البقاء من دون نقد لسبل هذه المقاومة، يرافقها ويعمل على التصحيح واستمرار عمل المقاومة لا إنهائها أو إحباطها كما يظن البعض.! وهؤلاء المُظنون لا يكتفون بعدم بناء سرديات تتعامل مع الواقع فقط، بل حتى يرهبون من يحاول النقاش أو بناء سرديات ناقدة للواقع.

عن نفسي، في آخر بضع ندوات، كنت أخاف من طرح رأيي بشكل واقعي، ومخالف، فقد سمعت في إحدى الندوات، مقولات شعبوية غير دقيقة، بمفاهيم علم الاجتماع والنفس والسياسة، تتحدث عن بداية نهاية المشروع الصهيوني بعد انتهاء الحرب الحالية، كما سرديات تتهم الشعوب العربية بالتخاذل، من دون فهم واقعي وملموس لحال تلك الشعوب، بعد قمعهم وسجنهم وقتلهم وتهجيرهم خلال العقد الماضي.

وكنت أود أن أشارك، ولو برأي نقدي واضح ومتماسك لهذه المقولات وغيرها، وأُحاجج من خلال معرفتي وبحثي وكتاباتي السابقة في تلك القضايا، وأسأل كيف تكون نهاية هذا المشروع الصهيوني؟ وما الدلالة على ذلك؟ وأن أشارك في نقاش أدافع به عن الشعوب العربية، لكني فضلتُ الصمت، خوفاً من اتهامي بخدمة السردية الصهيونية وغير ذلك من تفاهات سهل تداولها في نقاشاتنا الحالية.

وحتى بعيداً عن الندوات الواقعية، فعلى مواقع التواصل الاجتماعي، الفضاء الافتراضي الجامع لجلّ التوجهات الفكرية والتظيمية، إذ تُجرى عليه أيضاً عملية تصنيف الناس وتخوينهم لمجرد نقدهم، لفعل السابع من أكتوبر، حتى لو كان النقد من باب تقييم المكاسب والخسائر السياسية والاستراتيجية للشعب الفلسطيني وحركة المقاومة، لا من باب المقاومة نفسها، ففعل المقاومة نفسه ضد المُحتل، لا أحد يختلف معه سوى من بالفعل يؤيد سردية الاحتلال ويبرر لها، لكن ممارسات حركات المقاومة ذاتها تقيّم وتُنتقد بشكل مادي وبراغماتي، بعيداً عن الشعارات الرنانة، والأيديولوجيات العاطفية الضيقة، حتى تستطيع الحركة ذاتها تجنّب أخطائها مرة أُخرى في حاضر عملها السياسي والمقاوم ومستقبله.

التاريخ نفسه يعلّمنا أن الخوف أو الابتعاد عن النقد، لا يخلّف لنا سوى الهزائم والانكسارات، وها هي حركة فتح، حركة التحرر الفلسطينية الأشهر في المنتصف الثاني من القرن الماضي، ماذا جنتْ من تقديسها وتأليه قياداتها وعدم نقدها، سوى أنها تحولت إلى سُلطة فلسطينية تنسق مع الاحتلال، وتعمل معه يد بيد لمقاومة المقاومين، لا سيما في الضفة الغربية ومخيماتها، بل وتتمنَّع في ظل إبادة شعبها عن توحيد صفوف الحركات الوطنية الفلسطينية، للالتفاف حول حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والاستقلال بدولته.

كما أني لا أقصد بالنقد، مفهومه الساذج المُراهق، بل النقد الواقعي الذي يراعي بيئات حركات المقاومة، والظروف التي نشأت بها وتعمل تحت ضغطها الشديد، كما التحالفات التي تتركها تارة، وأُخرى تُقيمها وتتمسك بها. كل ظروف العمل للحركات السياسية سواء كانت حركات مُسلحة أو غير ذلك، يجب مراعاتها وتفكيكها الواقعي من سياقاتها التاريخية والاجتماعية والفكرية والدولية، حتى لا يتحول النقد إلى نقد أعمى مثله مثل التأييد الأعمى.

في الوقت الحالي، وما أطرحه في هذا المقال، هو ضرورة تبني النقد، واتخاذ منهجية التفكير النقدي الواقعية، وهذا ما سيؤدي بشكل حقيقي إلى مقاومة كل سياسات وسرديات الاستعمار والاستبداد، من حيث الفكر والممارسة. ربما هذا يكون صعباً، لكن ماذا أخذنا من الاستسهال سوى تخوين كل من نراه مختلفا عنَّا؟ ماذا أخذنا من عدم قراءة، بدقة وإنصاف، كل الكواليس التي تدور داخل كل المشاهد السياسية والإعلامية والفنية والحقوقية، سوى التفرقة والمُشادات والرضوخ للاستبداد، فبدلاً من أن نكون قوة في مواجهته، أصبحنا مستبدين آخرين لأنفسنا، وبمعنى أوجز وأدق يجب أن نترك عقولنا للسعي نحو النقد والمقاومة، لا مقاومة النقد.

اخترنا لك