بقلم زهير هواري
رحل الرئيس الدكتور سليم الحص عن دنيانا، ونحن في المستنقع نتخبط دون أن نهتدي إلى الطريق التي تنتشلنا من الوحول التي تقيّد حركتنا، وتحول دون حقنا بحياة سوية كالتي تحياها الشعوب والدول في أرجاء العالم.
رحل الرئيس الحص عن عمر ناهز الـ95 أمضى ردحا واسعا منها في التحصيل العلمي والتعليم الاكاديمي والمسؤوليات السياسية : رئيسا للحكومة لعدة مرات ووزيرا للاقتصاد ومسؤولاً في مواقع ادارية ومالية وغيرها، وكاتبا لتجربته في السياسة وما كابده في ظل ظروف أقل ما يقال فيها إنها من الأصعب التي مرت على لبنان.
لقد طعنت جرافات المراحل الرجل في الصميم، وجردته من عناصر قوته داخليا وخارجيا، وعندما انكفأ لم يتجه نحو الالتحاق بهذه القوة وتلك الدولة محاولاً استعادة ما قد يكون خسره على الصعيد الشخصي، وما خسره لبنان معه على الصعيد العام يقينا أن كل يعمل لمصالحه الخاصة وليس للمصلحة الوطنية العامة. كأن هذا الرجل جاء إلى موقع المسؤولية خارج الزمان والمكان الذي شغلهما.
وعليه، فقد آثر الإقامة في منزله عندما عزّ النصير، فكان ما كان من مسارات قادت إلى ما قادت إليه من مهاوٍ، نعيش الآن واحدة من أبرز تجلياتها في الانحلال السياسي لمؤسسات الدولة السياسية والأمنية والانهيارات المالية والاقتصادية والقضائية والخدماتية في موازة الاصرار على التلاعب بمصير لبنان. كل ما يحدث الآن هو بعض من نتائج العجز عن مواجهة القوى الأهلية التي ابتلعت الدولة وصادرت دورها، بعد أن أثخنتها بالجراح في سنوات الحروب التي لم تتوقف. وعليه لم يجد الحص ناصراً له في الحكم وخارجه يعينه على لجم أو مواجهة الاندفاع نحو الكارثة.
لقد حاول الرئيس الحص مراراً وتكراراً إنقاذ السفينة التي توشك على الغرق، ولكن محاولاته باءت بالفشل. لقد كانت قوى الامر الواقع المحلية وصراعاتها أقوى من أن تسمح له بالنجاح في مهمة الإنقاذ المستحيلة.
التعبير الأجلى عن ذلك هو ما عاشه اللبنانيون في زمن الحكومتين: حكومة الرئيس سليم الحص وحكومة الرئيس ميشال عون. يومها غادر الرئيس أمين الجميل قصر بعبدا تاركا البلاد مشلعة، وأشبه ما تكون بالهشيم الذي تأكله نيران حروب الإلغاء والتحرير وأوهام القائد الفرد الدونكيشوتية وغيرها… ومن سوء طالع الحص أنه عاش ليرى عون نفسه عائدا إلى قصر بعبدا، قبل أن يغادره تاركا البلاد للفراغ القاتل، الذي قد يكون معه آخر رئيس للجمهورية اللبنانية.
الصورة المحلية هذه تتكامل مع تغوّل القوى الاقليمية والدولية التي وجدت في لبنان مسرحاً جاهزا لتنفيذ سياساتها متسلحة بالجيوش والمؤامرات والمال، ومن وعلى حساب الوطن وأهله. وعليه لم يتمكن الرئيس الحص من تنفيذ ما يحمله ويحلم به لوطنه من مهام اعتقد أنها السبيل لخلاصه مما يتخبط به لجهة بناء الدولة ومؤسساتها في مناخ من الحياة الديمقراطية الحقيقية.
جاء إلى السياسة من الاكاديميا التعلُمِيّة والتعلِيمية وحاول مع الوزير الذي غادرنا هو الآخر قبل أيام د. جورج قرم عقلنة ما يستعصي على العقلنة من ممارسات سياسية واقتصادية متفلتة من كل قيد تمارسه الدول وممثليها على الساحة اللبنانية المعطوبة حتى النخاع.
رحل سليم الحص كواحد من كبار السياسيين الذين لم تتلوث أيديهم بدماء أو مال الابرياء من اللبنانيين، الذين خسروا حياتهم أو جنى أعمارهم وسط معمعة الطوائف واصطراعها وتبعياتها للخارج. رحل بعد سنوات من الصمت الذي اختاره، بينما كان يرى بأم العين كيف تدار الدولة من خارج الدستور والقوانين والمؤسسات… يكفي القول إن ما نعيش تفاصيله من مصادرة قرار الدولة سلما وحربا وحياة يومية هو مجرد أمثلة ونماذج عن المقدمات التي عارضها دون أن يستطيع كسرها.
سليم الحص وداعاً لك رجل دولة في زمن الدويلات والعصبيات المسعورة ومتاريس الطوائف المتناحرة على ما تبقى من أنقاض وطن.