هل هناك “مسألة شيعية” في لبنان ؟
تأمّلات في لاوعي الهزيمة والإنكار واختبار الشقاء التلقائي في مجتمع بلا دولة
كتب د. علي خليفة
ليست “المسألة الشيعية” في لبنان انعكاسًا أو تتمّة لحالة طائفية قائمة أو عابرة، كتلك الحالات الطائفية التي تسود المجتمع اللبناني المتعدّد والدولة التي انبثقت عن ائتلاف الطوائف الدينية في إطار عقد اجتماعي عبّر عنه الميثاق الوطني (1943) ثم وثيقة الوفاق (1989) وله ما يماثله في أنظمة المشاركة في سياقات مختلفة. وعلى امتداد التاريخ السياسي – الطائفي للبنان، لم تطرح “المارونية السياسية” ما يمكن اصطلاحه تحت مسمّى المسألة ولا “الحريرية السياسية”، ولكن “الشيعية السياسية” تأخذ الحالة الطائفية في صورتها القصوى وقد أضحت محورًا للعديد من القضايا المعقّدة في السياسة والثقافة والمجتمع، متزامنة مع إرادة الهدم والتعطيل والقضم من الداخل والاستتباع للخارج، واغتيال الهوية وطمس الوعي وتحوير التاريخ وتغييب التنمية ومتطلّباتها، فيشتدّ غلواء “الشيعية السياسية” عن طريق زيادة نفوذها داخل النظام وعلى حساب إقامته، مما يثير مخاوف الأطراف الأخرى وهواجس جمّة ويؤدي إلى صراعات سياسية متكررة، دون أن تكون زيادة النفوذ في النظام القائم أو إعادة تأسيس النظام هدفًا في حدّ ذاته أو مسار نضال “الشيعية السياسية”…
فـ”الشيعية السياسية” تفتح الباب على ما هو أدهى وأخطر ضمن ما يمكن اصطلاحه تحت مسمّى “المسألة الشيعية” في لبنان وقوامها: لاوعي الهزيمة وإنكار الواقع ممّا يدفع لعدم مساءلة أداء “الشيعية السياسية” وخياراتها حتى حين تكون كارثية، ورفض مشروع الدولة كجهاز ناظم في المجتمع، سواء عن طريق إقامة الأنظمة الموازية أو عن طريق القضم من الداخل، فتبرز حالة المجتمع بلا دولة مع كلّ ما تنتجه هذه الحالة من شقاء تلقائي.
لاوعي الهزيمة والإنكار: من حادثة في التاريخ إلى تاريخ من الحوادث
“انتصار الدم على السيف”: شعارٌ لحادثة تاريخية ذات رمزية، تستعيده “الشيعية السياسية” عنوانًا لتاريخ من الحوادث اللاحقة والراهنة، فينجم عن هذه الاستعادة مصادرة الوعي الضروري لملامح الواقع وصولاً إلى إنكاره، بحيث يصبح الانتصار والهزيمة سيّان، والمعارضة والموالاة سيّان، والأكثرية والأقلية سيّان، فتبقى “الشيعية السياسية” بمنأى عن المحاسبة وتحمّل المسؤوليات سواء انتصرت أو انهزمت، سواء أكانت في المعارضة أو في الموالاة، سواء أكانت في عداد الأكثرية أو الأقلية. هذا الإعماء رافق حرب الثلاثة وثلاثين يومًا في تموز 2006، ومنذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023، لاوعي الهزيمة العسكرية إعماء مقصود تنتهجه الشيعية السياسية فتبقى دائمًا منتصرة على الرغم من كل الأرقام والخسائر وبمعزل عن أي تفكير أو مساءلة.
ثمة إعماء من نوع آخر في الميدان السياسي في الداخل، يقوم على إنكار اللعبة السياسية وقواعدها وأدواتها.
فلا وجود للمعارضة والموالاة في محاولة لإنكار قواعد اللعبة الديمقراطية التي ينجم عنها تداول الحكم. ولا وجود لأكثرية أو أقلية، حيث يمكن تعطيل النظام عبر الإنقلاب عليه ووقف عمل آلياته كلما شعر حزب الله (أو الثنائي الشيعي استطرادًا) بأن التوازنات القائمة في غير مصلحته، كما يحصل في انتخابات رئاسة الجمهورية حيث يعطّل نواب الثنائي الشيعي النصاب في الدورة الثانية على امتداد أحد عشرة جلسة انعقد فيها المجلس النيابي بصفته هيئة ناخبة.
مجتمع بلا دولة
لا تكتفي المسألة الشيعية بمراكمة تاريخ من الهزائم وتغييب وعيها فيسهل تصريفها بوصفها انتصارات وإنكار اللعبة السياسية وأدواتها فيستتبّ الحكم دون محاسبة ولا مساءلة، وصولاً إلى فرض الشغور لتصبح الدولة بلا رأس ويد الشيعية السياسية بلا قيد، بل تمدّد العطب ليطال كل مستويات الحكم والأطر الناظمة للمجتمع.
وأصبح الشغور في رأس الدولة رأس جليد حالة خطيرة تتمدّد إلى كلّ هياكل المجتمع. فعملت الشيعية السياسية على استبدال نظام الدفاع والأمن بميليشيات مسلّحة تحلّ محلّ القوى المسلّحة الشرعية، واقتصادٍ موازٍ للاقتصاد الشرعي، ونظام تعليم رديف لنظام التعليم اللبناني… وعلاوة على الأنظمة الرديفة التي تعكس فشل تعاطي الشيعية السياسية مع إدارة التعددية، فإن قضم الدولة من خلال الإستيلاء على مؤسساتها الرسمية من الداخل هو أيضًا من ملامح “المسألة الشيعية” التي تتمّ الإحاطة بها في معرض هذا المقال. فنجد في داخل الأجهزة الأمنية الشرعية سطوةً للشيعية السياسية أو محاولة لفرض أو توسيع نفوذ.
وفي مراكز القرار التربوي، تتسلّل الشيعية السياسية لتفرض على السياسة التربوية الرسمية توجهاتها في مجالس الطلاب في الجامعة اللبنانية حيث يتم تغييب الإنتخابات الطلابية وفي المركز التربوي للبحوث والإنماء حيث يحاول حزب الله فرض أجندته ورؤيته خلال ورشة تصميم المناهج الجديدة وقبلها من خلال الترويج لسردياته ساعيًا لتضمينها في مناهج التعليم العام، سيما في منهج التربية الوطنية والتنشئة المدنية والتاريخ والفلسفة وعلوم الحياة. ويسعى أيضًا حزب الله إلى التغلغل في الحلقة الإقتصادية الشرعية بالإضافة إلى بنائه حلقته الخاصة واقتصاده الموازي عن طريق إعداد كوادر بشرية محسوبة عليه وبالملامح التي تتطلبها آليات الإنخراط في مؤسسات الإقتصاد الشرعي، ومنها الهيئات التجارية والمالية.
الشقاء التلقائي
إن تجربة المجتمع بلا دولة ليست فتحًا مبينًا في الحوكمة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل هي بابٌ للشقاء التلقائي. وهنا تقوم المسألة الشيعية على ذمّ النماء في مقابل تمجيد الشقاء واعتبار ثقافة الحياة مذلّة والفرح واللّذات مهانة. وإن كان الشقاء التلقائي نتيجة حتمية لكلّ عناصر “المسألة الشيعية”، فإن تفكيك هذه العناصر المعقّدة يمكن أن يكون بالإصرار على حق الحياة والحرية البديهية في مواجهة الشقاء التلقائي. الحرية البديهية هي في مصافي الحق الطبيعي للفرد. العيش والهناء والفرح واللذة والتوق إلى السلام والأمان: كلّها أشياء بسيطة… ولكنها كفيلة بنسف تعقيدات العناصر التي اجتمعت على تكوين “المسألة الشيعية” التي تمجّد الموت والغمّ والحزن والألم والصراعات الدائمة والمواجهات المستمرة…
الخلاصة
“المسألة الشيعية” هي محنة الشيعة ونكبتهم. هي مراكمة الهزائم تحت الإصرار على الترويج لها بوصفها انتصارات إلهية باهرة أو إرادة عليا قاهرة. والخروج من “المسألة الشيعية” يعني الإعتراف بالهزائم بوصفها الموضوعي المجرّد من شحن العواطف المستعادة من التاريخ ومن إعماء الإيديولوجيا ومن طموح الحكم.
إن الهزيمة العسكرية للشيعة ضرورة سياسية من أجل مداولة السلطة وانتظام أطرها وأدواتها في مجتمع تقوم فيه الدولة بأدوارها كافة في الدفاع والأمن والاقتصاد والمجتمع، دون أي انحراف أو خروج عن الصيغة التي غدت ناجزًا إنسانيًا وحضاريًّا في الحكمية وإدارة الشأن العام. وإن ضمان الحريات البديهية للفرد ضرورة وبداية مسار تحقيق متطلبات الوعي الفردي عبر تنمية المهارات والقدرات التي تسمح بالتفكير والتدخل والتقييم والنقد وصولاً إلى المساءلة والمحاسبة واعتبار القضايا العامة وانتظامها مسألة في صلب وعي المواطنية لا منطقة نفوذ خاضعة لمتطلبات “المسألة الشيعية”.