كتب د. ميشال الشّمّاعي
حضرة أمين عام منظمة حزب الله السيّد حسن نصرالله المحترم
تحيّة احترام وتقدير.
كم كنت أودّ لو أستطيع محادثتكم وجهًا لوجه، لكان لقاؤنا هذا مثمرًا أكثر بكثير. لكن بما أنّ الظروف التي اقتضاها خياركم الحياتيّ تمنع ذلك، قرّرت أن اخاطبكم بهذه الرّسالة المفتوحة أمام الأَمْلاءِ، لأنّكم باعتقادي المتواضع من أخايرهم.
دأبت على انتقادكم في معظم كتاباتي. وأنا أنتمي إلى الخطّ السياسي النقيض. فطوال مسيرتي السياسيّة – الفكريّة المتواضعة، درست عقائدكم وقارعت طروحاتكم بالحجّة والدّليل. وذلك إيمانًا منّي، أنا ابن الجنوب، بأن لا حياة للبنان من دون لبنانيّيه كلّهم. فلبنان متى فقد مكوّن من مكوّناته الحضاريّة، فقد جوهر وجوده. هذه قناعاتي. وأنا متمسّك بها حتّى آخر أنفاسي.
لا أؤمن بما تؤمنون. ولا أعتقد بما تعتقدون. ولا أدين بما تدينون. وقناعاتي الإيمانيّة، المسيحيّة بوجه التّحديد، لا تسمح لي بأن أدينكم لأنّ مسيحي علّمني بألّا أُدينُ كي لا أُدانُ.
أعلم تمامًا أنّ المظلوميّة التي شعر بها قسم كبير من المكوّن الحضاري الشيعي اللبناني هي من مسؤوليّة اللبنانيّين كلّهم. وأفهم أيضًا أنّ التزامكم بمبدأ ولاية الفقيه، والإمامة المعصومة، والمهدي المنتظر، هذه كلّها قناعات إيمانيّة ملأت هذا الفراغ الكِياني الذي شعرتم به في انتمائكم إلى الكِيانيّة اللبنانيّة، منذ ما بعد مجزرة عين إبل في الخامس من أيّار في العام 1920. ولاسيّما بعدما تكرّس الميثاق الوطني بين الخوري والصلح في استقلال عام 1943. وما زاد في الطين بلّة الوفاق الذي تمّ توقيعه في الطائف في العام 1989 وتكرّس دستورًا للبنان فيما أصبح يعرف بالجمهوريّة الثانية. حيث ازداد هذا الشعور عند قادتكم، وكان خياركم السيطرة على الدّولة اللبنانيّة.
أتحدّث معكم من دون أيّ كفوف. لأنّ الأهداف واضحة والرّؤوى مكشوفة. على الأقلّ بالنسبة إليّ كمواطن لبناني شريك في هذا البلد. وأؤمن أيضًا أنّ شراكتي مع إخوتي اللبنانيّين هي شراكة كيانيّة لا لبث فيها. وقناعتي أنّنا قد نعيش يومًا ما، وآمل أن يكون قد اقترب، بعضنا مع بعض بطريقة مختلفة، لكنّنا حتمًا سنعيش مع بعض.
إلّا أنّ هذه الرسالة بقدر ما تحمل في طيّاتها عتبًا وطنيًّا وكيانيًّا، هي خارطة طريق للمستقبل الذي أطمح إليه انطلاقًا من مواطنيّتي مع كلّ الذين يشبهونني بإنسانيّتي المتجرّدة من أيّ انتماء. لذلك كلّه، أسأل سماحتكم أن تعودوا عودًا كريمًا إلى لبنانيّتكم. ولا يحاولنَّ أحد أن يقنعنا بأنّ انتماءكم الأوّل هو للبنان. فنحن لم نقل يومًا أنّ ولاءنا الأوّل هو لبابا الفاتيكان.
لا علاقة لي كمواطن لبنانيّ بولائكم الدّيني مهما كان. فهذه العلاقة العموديّة مع الخالق وحده الانسان مسؤول عنها. أنا أخاطبكم عملًا بعلاقتي الأفقيّة مع مواطنيّتكم اللبنانيّة. ما يحدث في لبنان اليوم لا يشبه أحلامي بوطن لأولادي وأحفادي من بعدي. لن أتحدّث معكم بالسياسة فقد كتبت ما فاضت به دفّات الكتب والصحف في هذا المضمار. أتحدّث معكم اليوم بشكل مباشر، مخاطبًا هذا الضمير الوطني الذي ما زال حيًّا فيكم. وهذه قناعتي.
فلسطين ليست قضيّتي الوطنيّة، بل هي من أسمى قضاياي الانسانيّة. مثلها مثل القضيّة الأحوازيّة، والسودانيّة، والكرديّة وغيرها من قضايا الشعوب المظلومة. لكن لا يعني الشعور بالمظلوميّة قضاء على الذات الوطنيّة. فمَن يخسر وطنه إكرامًا لغيره، لا وطن يأويه. وهذا باعتقادي ما لا يريده أيّ لبناني على اختلاف قناعاته.
المطلوب منكم اليوم اليوم وليس غدًا، لأن إن لم يكن اليوم فلن يكون هنالك أيّ غدٍ؛ المطلوب تواضع وطنيّ وسياسيّ حتّى نعقد قرانًا وطنيًّا يشبه تركيبتنا المجتمعيّة؛ فنصحّح بذلك الخطأ الذي ارتكب بعدم تطبيق الدّستور، وصولًا إلى تطويره على أفضل ما يرام بشكل يؤمّن للمكوّنات اللبنانيّة كلّها تلك الحرّيّة الشخصيّة الفردانيّة، وبرتقي بها إلى أعلى المستويات الجماعيّة المتشابهة لنعيش معًا حياة تشيه تطلّعاتنا.
رأفة بدماء الذين يموتون اليوم، أو الذين سقطوا على قارعات طرق الأوطان التي نحترمها ولكنّها ليشت وطننا، أدعوك باسمي وباسم الكثير من اللبنانيّين إلى عودة كريمة إلى صلب الدّولة اللبنانيّة. وانا كلبنانيّ لا أرضى إلا بان تكون مظفّرًا في دولة تحترم وجودكم ووجودي على السواء. فوجودنا معًا هو وجود ثابت وجامد وصلب، ولكنّ حضورنا معًا هو المتحرّك والفاعل والمطواع.
ولا يمكن لنا أن نستمرّ في وطن مع شريك يمارس علينا أشنع صيحات الاستعلاء. حتّى وصل الأمر بسماحتكم إلى عدم اعتبارنا بشر لمجرّد أنّنا لا نؤيّد ما تقومون به فيما يتعلّق بالحرب الدّائرة. هذا لعمري ضرب من التعالي لا يقبله إنسان عاقل. نحن بشر ووطنيّون وهذا ما أثبتته مقاومتنا اللبنانيّة؛ ولن نقبل منكم أو من أيّ لبنانيّ آخر أن يصنّفنا في هكذيّة تشبهه ولا تشبهنا.
خطاب التّعالي والتخوين والأمركة والأسرلة لا يبني شراكة وطنيّة. بل يؤجّج المزيد من الشعور بالمظلوميّة التي عشتموها يومًا ما. فأنتم بخطابكم هذا، تنقلون تجربتكم إلى غيركم. وهذا بالطبع لا يبني ديمومة على الاستقرار في بلد واحد. ونحن لا نريد تقسيم لبنان إلى لبنانين أو لبنانات. لكنّنا نريد الحياة بأمان. ولا نريد الحرب الدّائمة. فهذه ليست قناعاتنا. وإن كانت قناعاتكم لا يمكن أن تفرضوها علينا بالقوّة.
نحن وإيّاكم معًا في هذه السفينة. وسفينة الوطن تغرق. ولن نسمح لها بالغرق. كما أنّنا لن نتركها للنجاة بأنفسنا فقط لأنّنا نملك أدنى حسّ من أحاسيس الأخوّة الوطنيّة التي تجمعنا بكم. لذلك، نحن أمام فرصة لن تتكرّر. لدينا قدرة على استعادة الدّولة وبنائها بناء صلبًا من جديد. اليد باليد. فلا تستطيع أن تواجه العالم كلّه لأنّك تؤمن بمبدأ الاستشهاد في سبيل ما تؤمن به، وأنا كشريك لك في هذا الوطن لا أومن به. احترم شهادتك لقناعاتكم لكن لا يمكنكم أن توطّنوا قناعاتكم في وطننا.
في الختام، نحن نريد الحياة بكرامة. ونرفض اعتداءات العدوّ الإسرائيلي وانتهاكاته غير الانسانيّة كلّها. وأيّ انتهاك للسيادة والكرامة الوطنيّة مرفوض من أنّى أتى. لكنّ قناعاتي أنّ دولة قويّة تستطيع الدّفاع عنّي وعنك. ومن دون أن تمنّني لأنّها تقوم بواجبها.
لكن اسمح لي أن أعلن للملأ أنّني لن أسمح بتدمير ما تبقى من وطني كرمىعيون أحد. سأحافظ على ما أستطيع المحافظة عليه. واعلم جيّدًا سماحتك، أن لا إنسان أو دولة مستعدّة لأن تموت عنّي وعنك لأجل أن نعيش معًا بكرامة. فإذا نحن قرّرنا الموت فهم حتمًا سيلقون حفنة التراب الأخيرة فوق قبورنا، والمسيرة ستستكمل.
أنا وكثيرون أمثالي قرّرنا الحياة بكرامة في دولة لا تتشارك سيادتها مع أحد. ونرفض أن نموت لنعزّز فرص ومكاسب وصفقات غيرنا. نشهد للحقّ. وشهادتنا في وطننا لا لغيره. لأنّنا هنا كنّا. وهنا سنبقى. وقوّات الجحيم كلّها لن تقوى علينا. ونريدك ومَن معك، أن تقرّروا الحياة لا الموت، لنشهد معًا للحقّ في وطننا. فإن كنت تجرؤ … انضمّ إلينا.