نازحو الجنوب يفقدون أمنهم الغذائي : نريد لحماً مشوياً وكنافة

كتب خضر حسان

حملَ النزوح المرافق لحرب تشرين الأول 2023 تحديات ظنَّ النازحون أنّها باتت وراءهم بعد تحرير الجنوب قبل 24 عاماً. بل تبدو التحديات الراهنة أصعب بكثير من تلك التي اختُبِرَت سابقاً، حتى بالنسبة للنزوح خلال حرب تموز 2006، سيّما وأن أمدَ الحرب الحالية أطول بكثير، ومتطلّبات الحياة أصبحت أعقد. وهذه المتطلّبات، ومنها التنويع في الطعام وتوفير أدوات النظافة الشخصية والألعاب، يفتقدها النازحون، ومن بينهم أولئك الذين استقرّوا في مراكز النزوح الخمسة التي تشرف عليها وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديات صور.

وفي جولة بسيطة على أحد المراكز، تعلو صرخات النازحين لتتلخّص بعنوان واحد “أوقفوا الحرب لنعود إلى قرانا… أو أمِّنوا لنا عيشة غير مذلّة”. ويأتي رفض الواقع المُعاش انطلاقاً من أن “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”. فالنازحون اليوم يرفضون اختصار معيشتهم بصندوق كرتوني يحوي كيس أرزّ ومعكرونة وربطة خبز. فالمسألة أبعد من ذلك بكثير.

الافتقار للغذاء وحاجات أخرى

تختلف المناطق التي نزح منها اؤلئك الموزَّعون في غُرَف مبنى مهنية صور الرسمية. لكن توحِّدهم المصيبة والقلق اليوميّ والمطالب التي لم تتحقَّق حتى اللحظة رغم بساطتها.

مجموعة من النسوة يتجمهرنَ في البهوِ لعرض مشاكلهنّ أمام الإعلام، علَّ الصوت يصل إلى المسؤولين السياسيين والمنظمات الإغاثية المحلية والدولية، والتي تقدّم لها النسوة بعض النصائح حول كيفية تحديد المتطلّبات الغذائية للنازحين، وآلية توزيع المساعدات، انطلاقاً من الخبرة على أرض الواقع “فالمجرِّب أفضل من الطبيب” بالنسبة لإحدى النازحات.

نسوة يتكلّمن بعدم انتظام، يعرضن في الوقت عينه كلّ ما يخطر في بالهنّ من مشاكل وهواجس. تُسكِت إحداهنّ الأخرى، وثالثة تُكمِل ما بدأته صديقتها. والكلّ متّفق على أن “هذه ليست عيشة. لم نعد نحتمل. هنا لا تعيش الدوابّ”، تقول إحدى النازحات في إشارتها خلال حديث لـ”المدن”، إلى المكان الذي يعيش فيه النازحون، نظراً لعدم تجهيزه بالوسائل الضرورية لضمان الحياة اللائقة. ورغم تأمين بعض مراوح الهواء وأدوات التنظيف والفرش والأغطية ومناشر الغسيل وغير ذلك، إلاّ أنها لا تكفي. فتطول لائحة المطالب التي تعتبرها النسوة أساسية في هذه الظروف “فالأولاد يريدون ألعاباً. ونحن نريد برّادات لحفظ الطعام، وشراشف وثياباً، وخصوصاً الثياب الداخلية، بالإضافة إلى العطورات ومزيل العرق… والكثير من الأمور التي كانت موجودة في منازلنا”.

وفي الغرف التي قُسِمَ بعضها إلى قسمين بغطاء من النيلون السميك للسماح بإيواء أعداد أكبر من العائلات، يعيش النازحون أسوأ أوقاتهم وسط الحرّ الشديد وضجيج الأولاد والمراحيض المشتركة ومحاولة تأمين أكبر قدر من النظافة في ظل الازدحام. أما أكلهم وشربهم، فعبر الحصص الغذائية التي “تحتوي على أرزّ ومعكرونة، نحنا لا نأكلها وأولادنا لا يحبّونها ويرفضون أكلها، فنضطر لشراء ما تيسّر من أكل عبر مبلغ 200 دولار نحصل عليه من حزب الله. علماً ان هذا المبلغ لا يكفي لأنه يُعطى لكل عائلة بصرف النظر عن عدد أفرادها”.

تُجمِع السيّدات على وجود “حالات سوء تغذية بين النازحين وخصوصاً الأطفال. فهم لا يأكلون جيّداً ولا يوجد تنوُّع في الأكل، وبعضهم يحتاج كميات من الحليب غير متوفّرة. والأطفال يشتهون الفواكه واللحوم، إذ لم يأكلوها منذ نحو 9 أشهر”. تضحك إحدى النازحات “من شدّة سخرية ما وصلنا إليه”، وتقول “منذ خروجنا من قرانا لم نأكل لحماً مشوياً”. وتعاجِل أخرى وتقول “والكنافة لم نعد نتذوّقها”.

وفضلاً عن سوء التغذية، يفتقر النازحون إلى الأدوية، سيّما كبار السنّ منهم. فتؤكّد مسنّة في العقد الثامن من عمرها، بصوت خافت وشهيق صعب وصوت يُسمَع في صدرها، أنها تحتاج إلى أدوية قلب وضغط “بنحو 100 دولار شهرياً”. وللعجوز التي تسير ببطء بمساعدة عكّازها نصيبها من سوء التغذية إذ “نأكل ما توفَّر لنبقى على قيد الحياة فقط”. علماً أن هذه المسنّة، وفق ما تقوله ابنتها “كانت تنتج من حقلها نحو 35 تنكة من زيت الزيتون سنوياً، بالإضافة إلى عائدات زراعة التبغ وزراعات أخرى. أي أنها لم تكن بحاجة لأحد كي يعيلها، واليوم تنتظر مَن يعطيها بعض المساعدات. وهذا الواقع أثَّرَ سلباً على صحّتها الجسدية”.

حماية الأمن الغذائي

يواجه النازحون تداعيات الحرب في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية رفعت معدّلات الفقر. وهذا الواقع يدعو للتساؤل حول امكانية الحفاظ على الأمن الغذائي للنازحين. ومع تأكيدها على أن ما يأتي للنازحين من حصص غذائية لا يحقّق الأمن الغذائي، تشير المنسّقة الوطنية للنُظُم الغذائية في لبنان النائبة عناية عز الدين، إلى أن “تحقيق الأمن الغذائي يكون عبر تأمين شروط، منها توفُّر الغذاء واستدامته والقدرة على الوصول إليه والقدرة على اختياره بعيداً من المؤثرات التجارية…”. وليس هناك مراعاةً في لبنان لتلك الشروط، مما يصعِّب مواجهة الحالات الطارئة مثل الحروب والأزمات الاقتصادية.

والافتقار إلى تكوين صورة صحيحة عن توفير الأمن الغذائي، لا ينحصر فقط بالدولة اللبنانية بل يطال مؤسسات الإغاثة الدولية أيضاً. ووفق ما تقوله عز الدين في حديث لـ”المدن”، فإن البلاد التي تشهد حروباً وصراعات تتحوَّل إلى ساحة عمل بالنسبة لمؤسسات الإغاثة التي “تقدّم مساعداتها على شكل صناديق تحوي مواد غذائية، بعيداً من مفهوم التنمية المستدامة والأمن التغذوي. فالمطلوب ليس فقط توفير الخبز والأرزّ والمعكرونة التي باتت المساعدات الغذائية تقتصر عليها بشكل أساسي، بل المطلوب تنويع الطعام لكي لا تتأثّر صحة الناس بشكل سلبي”.

وتحذّر عز الدين من بروز “حالات سمنة مفرطة أو نحافة مفرطة، نتيجة تناول الطعام غير الصحّي وغير المتنوِّع. فالفقراء يستهلكون ما يُقَدَّم لهم أو ما يمكنهم شراؤه بأسعار بخسة، لذلك يتّجهون نحو النشويات التي تعطيهم احساساً سريعاً بالشبع، لكن استهلاكها بكميات كبيرة يؤدي إلى مشاكل صحية”.

ولحماية الأمن الغذائي، ترى عز الدين أنه يجب الانطلاق من التشريع لتأمين استدامة العمل بالقرارات المتعلقة بالأمن الغذائي والتغذوي، ولتأمين الربط بين كل القطاعات والمؤسسات التي تُعنى بهذا المجال. فالأمن الغذائي لا يرتبط فقط بالزراعة، بل يطال أيضاً عملية الاستيراد. وتشرح عز الدين أنه “في ظل توفير القطاع الزراعي في لبنان نحو 20 بالمئة من الغذاء، واستيراد نحو 80 بالمئة من الحاجات الغذائية، يجب إيجاد تشريعات تحدّ من استيراد المواد الغذائية المضرّة، كأن نرفع الضرائب على استيردا تلك السلع، وبذلك تكون الدولة قد ساهمت بشكل من الأشكال في الاهتمام بصحة المواطنين بطريقة غير مباشرة”. وأيضاً، يتم ضمان الأمن الغذائي عن طريق “توفير المياه والتربة الصالحة للزراعة وحماية الرأس المال البشري وضمان نظافة الهواء وتأمين الطاقة المستدامة والنقل… وغير ذلك”.

وفي محاولة لمأسسة مفهوم الأمن الغذائي والتغذوي، تشير عز الدين إلى وجود مشروع قانون في مجلس النواب تحت عنوان “قانون الحق في الغذاء”. وتلفت النظر إلى أن هذا المشروع “يخلق البيئة التشريعية والبنى المؤسساتية التي يفترض بها تأمين الغذائي، كما يؤمّن الربط بين الوزارات والإدارات والجمعيات والمنظمات التي تعنى بهذا الشأن”.

وربطاً بملفّ النازحين، تؤكّد عز الدين أن المشروع الزراعي الذي تم إطلاقه في مركز النزوح في مدينة صور، يندرج ضمن سياق الأمن الغذائي والتغذوي لأن “النازحات يزرعن أنواعاً مختلفة من الزراعات، بطريقة عضوية وبمياه نظيفة، ويتعلّمن كيفية استخدام المواد العضوية والموارد المتوفّرة لديهنّ للحصول على منتجات صحية وآمنة ومتنوعة. وستأخذ النسوة معهنّ تلك المعارف إلى القرى بعد توقّف الحرب، على عكس المساعدات الغذائية التي يحصلن عليها، فهي مساعدات غير مستدامة”. لكن هذا المشروع لا يكفي في ظل غياب امكانية تعميمه على كل المناطق وفي ظل عدم وجود التشريعات اللازمة لتوسيعه.

اخترنا لك