بقلم عقل العويط
أيلول. كنّا، أولادًا، ننتظر أيلول، لننام تحت أيلول، تحت القمر المندّى، تحت الشتوة الخجولة، فنستفيق مبلولين بما يشبه ماء الجسد، ماء الوله، وننصت إلى رنين الذهب، إلى لقاء السلسبيل بإيقاع الروح، آن يحلّي خصلة عنب على داليةٍ شاردة، فنمضي إلى الحقول، إلى الحفافي، وتقولين الآن لي لا تيأس أقول لكِ لن أيأس. لكنّي أكذب. وتقولين لي عُضَّ على الجرح أقول لكِ إنّي أعضّ على الجرح. ثمّ أكذب ثانيةً في مسألة اليأس.
لكنّكِ تقولين لي، ماذا تقولين لي؟ تقولين إيّاكَ أنْ يعرف أحدٌ. إيّاكَ أنْ تترك ثغرةً يتسربّ منها شعاعُ شكٍّ إلى طفلٍ إلى فتى إلى صبيّة إلى شارع إلى شجرة إلى الحياة. لأنّي – والكلام لكِ – لن أعودَ أقبّلكَ لن ألعب بخصلات شعركَ المتطاولة، فأقول بعينين ضارعتين إنّي لن أفعل لن أفعل.
لأنّي لستُ يائسًا حقًّا، وإنْ كنتُ أكذب قليلًا. وتقولين لي عيبٌ وعارٌ وممنوعٌ أنْ تيأس، لأنّكَ تكتب وتحبّ وتتمرّد وتظلّ – ما أحلاك – لا تخنع لا تستكين لا تساوم، فأقول معكِ حقّ، إنّي أكتب وأهيم وأظلّ أظلّ أحلم، ها إني أظلّ مَن أنا. وسأظلّ.
هل تتذكّر يا أمين؟ قلتُ لكَ أريد نباتات غرائبيّة، متمرّدة، فظّة، متوحّشة، هاشلة، مشاكسة، برّيّة، ماجنة، ذكيّة، فالتة على حلّ شَعرها، غير رومنطيقيّة، ملعونة، ولا تشبه حديقتكَ الفردوسيّة، ولا الجنينة، ولا المزهريّات، ولا فرحكَ الداخلي، ولا السلام، ولا الطمأنينة، بل التيه والخروج على الطاعة والمتاهة، وبألوانٍ ماتيسيّة، لكنْ على طريقتكَ. فابتسمتَ، حضرتكَ، بملعنة، بأبّهة، وبثعلبة جميلة. وكأنّكَ تقول لي أنا لها أنا لها.
كان ذلك في زمنٍ مضى، عندما على تلك الحال من الخفّة، مضمِرًا شيئًا مستحقًّا من البداهة والثقة بالنفس. غُلُف “الملحق” وصفحاته الداخليّة، بقيت إلى الأمس، إلى 2015، تتباهى بأعمالكَ، التي لو يُسِّر لها أنْ تُجمَع، ويجب، لوضعتُ لها بنفسي دراسةً معمّقة، فيصلح ذلك كلّه أنْ يندرج في كتاب.
كان ذلك أوائل التسعينات، بعد عودتنا من قبرص حيث كنتُ آخذكَ بسيّارتي الحرتوقة لنجول في الأمكنة البحريّة والجبليّة، أنتَ لترسم، وأنا قارئًا، وعندما نجوع، ندخل إلى بعض المطاعم المتواضعة، إلى المطابخ توًّا، فيضحك لنا الرجل وزوجته، متعجّبَين، ويفقعان من الضحك، لأنّني سأتولّى تحضير السفرة من البيض البلديّ، والجبنة البلديّة، والسلطة البلديّة، وجبنة الحلّوم المسخّنة. ماذا أيضًا يا أمين؟!
بقيتُ أعلّق تلك اللوحة في بيتي بيسوع الملك، المطلّ على البحر، إلى يوم انتقالي إلى أشرفيّة بيروت قبل نحوٍ من ثمانٍ، فانتقلتْ هي معي، وبإلحاح، لنتشارك الحوارات، لكن أيضًا لنتشارك محنة الأيّام، حيث كنتُ أراها تخاطبني وأخاطبها، فأعرف ما تريد منّي وأعرف ما أريد منها. ثمّ، أحيانًا، تدلهمّ النفس، وكثيرًا ما تدلهمّ، فنذهب معًا، هي تخرج من الإطار، وأنا من أوزاري. تشنكلني، وأنصاع. وإلى أين نذهب؟ إلى الغابة وراء اللوحة، وهي الحرّيّة والمتاهة والتجوال الغرائبيّ السورياليّ في الحلم، غصبًا عن هذا الواقع المرتّ. لكن إلى حين، دائمًا إلى حين، حيث لا بدّ من البيت، وهو ستّار المشقّات والعيوب والأوجاع. ما أكثرها اليوم.
لا تسألني لماذا أذكّركَ بتلك اللوحة. حاوِلْ ألّا تسأل، فأتفادى أنْ أجيب. أسباب قاهرة؟ ربّما. على كلّ حال، شو بدّك بالأسئلة، عندما نبدأ بها، لا هي تنتهي، ولا نحن نحصل على أجوبة. سلامي إليك، يا أمين.