بقلم غسان صليبي
إحتفل الاساتذة المتعاقدون في التعليم الاساسي الرسمي، يوم الأحد الاول من أيلول، بإطلاق رابطة رسمية مستقلة لهم، بعد حصولهم حديثاً على “العلم والخبر”.
لا يبدو لأول وهلة ان الحدث، لبساطته وسهولته، يحتاج الى احتفال. فيُفترض بحسب أحكام قانون الجمعيات اللبناني الصادر سنة ١٩٠٩ ان يكون “العلم والخبر” إيصالا يستلمه المؤسسون من الإدارة المختصة، يثبت بأن هذه الأخيرة استلمت البيان القانوني وبأنها بالتالي أخذت علما وخبرا بتأسيس الجمعية. والمبدأ القانوني الأساسي الذي يرتكز عليه هذا القانون، هو التأسيس دون الحاجة الى ترخيص بمجرد إعطاء المؤسسين للإدارة بيان الاعلام أو “العلم والخبر”.
وهكذا كان، اذ تقدمت “اللجنة الفاعلة” التي تمثل الاساتذة المتعاقدين في التعليم الأساسي الرسمي في لبنان، بطلب تأسيس رابطة سنة ٢٠١٨. لكن أحدا من المسؤولين، لم يشأ اخذ العلم وإعلان الخبر حتى سنة ٢٠٢٤ عندما وقّع وزير الداخلية على الطلب، نتيجة قرارين من مجلس شورى الدولة تطالبانه بالتوقيع، بعد أن إعترض على القرار الاول.
لا لم تكن المسألة نتيجة إهمال او عجقة معاملات، ولا مرحلة استثنائية لم تكن تُوقع فيها طلبات تأسيس الجمعيات. على العكس من ذلك تماماً. كما انها لم تكن فقط مراعاة من قبل وزير الداخلية لوزير التربية، الذي كان قد فصل رئيسة اللجنة الدكتورة نسرين شاهين من عملها، بسبب نضالها النقابي. اذ ان الفصل تم سنة ٢٠٢٢ فيما طلب العلم والخبر قُدم قبل ذلك باربع سنوات.
بتقديري أن تأخر الحصول على العلم والخبر يعود إلى خمسة اسباب جوهرية على الاقل:
١ – اسباب تنظيمية: الرابطة الجديدة تمثل الاساتذة المتعاقدين الذين يشكلون حوالي ٦٥ % من الاساتذة في التعليم الرسمي الاساسي، وهم للمفارقة، لا يُسمح لهم بالانضمام الى رابطة الاساتذة في التعليم الأساسي الرسمي، وهذا تحدٍ للرابطة، التي تتكلم بإسمهم من وقت لآخر لكن دون اعطائهم حق الانتماء والانتخاب.
٢ – اسباب مهنية – اقتصادية: الاساتذة المتعاقدون هم جزء من العمالة المياومة او ما يعرف بالعمالة غير المنظمة، التي تشكل بحسب الإحصائيات الأخيرة للإحصاء المركزي، حوالي ٦٣ % من العمالة في لبنان. ويوصف عمل هؤلاء بالعمل الهش غير الثابت والذي يفتقر إلى ابسط الحقوق، فأجر الساعة بخس، والقبض لا يتم شهرياً بل حولي ثلاث مرات في السنة، ولا ضمان اجتماعي متوفر في غياب ابسط الحقوق التي يضمنها قانون العمل، كما ان الصرف من الخدمة هو الهاجس الأكبر للعاملين اذ انه يتم بسهولة دون أي عقبات لا قانونية ولا إخلاقية ولا نقابية.
رغم ظروفها الصعبة، لا يجري تنظيم العمالة الهشة نقابياً، وفي القطاعات التي يوجد فيها نقابات، تتفادى هذه الأخيرة ضم هذه العمالة الى تنظيمها. حتى في دول العالم حيث النقابات قوية، لم يجرِ تنظيم هذه العمالة الا في العقود الأخيرة، ولا زالت العملية في بداياتها. وجرى وصف هذه العمالة ب”الطبقة العاملة الجديدة” لاختلاف ظروفها عن ظروف العمالة الثابتة التي اكتسبت الكثير من الحقوق من خلال نضالاتها.
وقد تعاطت معظم الدول، ومن بينها لبنان، مع توسع العمالة الهشة بإستخفاف، مستجيبة لمتطلبات السياسات الرأسمالية النيوليبرالية التي من مصلحتها توظيف هذا النوع من العمالة الرخيصة، لدرجة ان ٧٠ % من فرص العمل المعروضة سنوياً في العالم هي عمالة هشة. بهذا المعنى أن تنظيم العمالة الهشة نقابياً يهدد سياسات النيوليبرالية الاقتصادية.
٣- اسباب لها علاقة بالفاعلية: أعضاء “اللجنة الفاعلة”، وهو اسم الرابطة قبل أن تصبح رسمية، نساء ورجالاً، مع إكثرية نسائية، برهنوا عن قدرة نضالية هائلة، في تواصلهم وتنظيمهم المناطقي، في اعتصاماتهم وإضراباتهم، في مواجهاتهم للقمع السلطوي والطرد التعسفي والتهديد الدائم بالطرد. وكل ذلك يخيف السلطات ويجعلها تتردد في تسهيل عمل هؤلاء النضالي عبر إعطائه العلم والخبر لتأسيس رابطة.
هذه النزعة النضالية جعلت من الاساتذة المتعاقدين يطلقون على تنظيمهم اسم “اللجنة الفاعلة”، اذ انهم يريدون الفعل وليس الكلام فقط كما باقي الروابط والنقابات، ويريدون تحقيق مطالبهم بالعمل الجاد الذي يتطلب الشجاعة والإخلاص والمثابرة. وكل هذا التصميم يخيف ولا شك المسؤولين.
وبالفعل فقد فعلت “اللجنة الفاعلة” فعلتها وانجزت الكثير من المطالب ابرزها: رفع قيمة اجر الساعة، إقرار قانون العقد الكامل رقم ٢٣٥، إقرار مرسوم بدل النقل، تحصيل حوافز بالدولار خلال الأزمة المالية، قبض مستحقات الاساتذة المستعان بالدولار ومباشرة عبر مراكز التحويلات المالية، قبض بدل مشاركة في بعض الدورات التدريبية.
٤- اسباب سياسية: الذي يخيف أكثر هو استقلالية الرابطة الجديدة عن السلطة، وتحديداً عن الأحزاب السياسية، التي تهيمن على معظم الروابط والنقابات في لبنان. وهذا بحد ذاته خرق لواقع مرير أصبحت ترزح تحته الحركة النقابية اللبنانية، مما يفسر ممانعة السلطة طويلاً هذا التطور ومحاولاتها للحؤول دون إعطائه الصفة الرسمية، فلا تريد أن يعلم به او أن يخبر عنه أحد.
نشهد هنا ظاهرة جديدة في لبنان، الا وهي بداية تكوين ما يُسمى ب”النقابات المستقلة”، وهي ظاهرة انتشرت قبل ذلك في بعض البلدان العربية، من مثل الجزائر ومصر والاردن، حيث السلطة تهيمن على الحركة النقابية، مما دفع مجموعات عمالية الى تأليف نقابات مستقلة.
لا شك ان استقلالية الرابطة الجديدة قد تغذت من المزاج الشعبي العام في لبنان، ما بين ٢٠١٥ و٢٠٢١، عندما تطورت التحركات الشعبية في سنة ٢٠١٥ لتصبح انتفاضة ١٧ تشرين ٢٠١٩. والعنوان الاساس لهذا المزاج الشعبي كان استقلاليته عن السلطة واحزابها كافة، مما عُبّر عنه بشعار “كلن يعني كلن”.
لا شك أيضا ان “اللجنة الفاعلة” قد استفادت أيضاً من هذا النفس النضالي الذي طبع هذه السنوات.
٥ – اسباب شخصية – قيادية: السبب الأخير لتلكؤ رجال السلطة في إعطاء العلم والخبر هو ان “اللجنة الفاعلة” هي بقيادة إمرأة شجاعة، اسمها نسرين شاهين، وقفت بكل تصميم وعناد، بوجه وزير التربية عباس الحلبي: بداية، عندما راح يماطل ويراوغ في مفاوضاته مع اللجنة، رافضاً التجاوب مع مطالبها المحقة، فأستمرت بالضغط عليه عبر قيادة الاعتصامات والاضرابات؛ ولاحقاً، عندما فصلها تعسفياً من العمل وراح يحيلها أمام المراجع القضائية بتهم القدح والذم. فلم تخف بل تصدت له مباشرة وعبر الفيديو، قائلة له “انت فالل وانا باقيي”. وعندما طلبوا منها في المباحث الجنائية إلغاء البوست الذي تنعت فيه الوزير ب”البلطجي” تحت طائلة ابقائها محتجزة في السجن، رفضت ذلك وأصرت على موقفها مما أجبر المعنيين على إطلاق سراحها. وبعد ذلك حاول الوزير جرّها الى مرجع قضائي آخر لكنه سرعان ما انكفأ تحت ضغط هيئات كثيرة من المجتمع المدني المندد بممارساته المشينة. مع العلم انه يرفض حتى الآن تنفيذ حكم مجلس شورى الدولة الذي يطالبه بإعادتها الى العمل.
رغم كل هذه العقبات ها هي ” اللجنة الفاعلة” تتوّج نضالاتها بالحصول على العلم والخبر، بفضل شجاعة وتضحيات ومثابرة إعضائها. الا يستحق هذا الانجاز الكبير، احتفالاً مميزا، تُطلق فيه صرخة فرح، ملؤها التقدير والإحترام: “يا للعلم الإكيد، يا للخبر السعيد”.