بقلم عقل العويط
عمرًا أمضيناه معًا في “الملحق”، وفي الحياة. والحرّيّة. أتذكر؟!
وفي السرّاء والضرّاء. وفي الضيق والبحبوحة. ونجلس حول الطاولة نفسها، في المكان المتواضع نفسه، ويتّسع، وصحبتنا صحبة، وأهلنا وأصدقاؤنا وضيوفنا لبنانيّون وعرب، وسوريّون وعراقيّون وفلسطينيّون وأردنيّون ويمنيّون وخليجيّون ومصريّون ومشارقة ومغاربة، ومن بقاع الأرض، ورفاقنا رفاق، وشعراؤنا شعراء، وكتّابنا كتّاب، ورواياتنا روايات، ونصوصنا نصوص، وقصائدنا قصائد، وتلهم، وتفتح الطرق، وتختبر الأساليب، وتتجرّأ، وتشقّ أثلام الحداثات، وما بعد الحداثات، وكلّنا، وأفكارنا وآراؤنا للجدال والمناقشة والمؤانسة والاختلاف والمؤالفة، ونتقاسم الصحن نفسه، والرغيف نفسه، والسؤال نفسه، والأسئلة نفسها، ونقارع الجدار الأصمّ نفسه، بجموع الورق والحبر، وذكاء الأيدي والعقول والأفئدة، ولا هوادة، ولا كلل، ولا ضجر، ولا يأس، ولا مهادنة، ولا تصعير، ولا دفن رؤوس في الرمال وغيرها، على رغم الصعوبة والمشقّة والهول والموت والقتل والترهيب والإرهاب وقلّة ذات اليد. أتذكر؟!
وأنتَ كنتَ إلى أمس، لا تزال في الرونق وفي النضج، وفي العقل كلّه، والحكمة، والحيويّة، والشراسة نفسها، وكم كان عليكَ أنْ تقفز فوق الخطّ الأحمر، فوق الزيح الجهنّميّ، فوق غلط الجسم، وهو الإناء الخائن، لتواصل اختراع الحكايات والقصص، وتأليف الوقائع والأحداث، ومزج السير الخاصّة بسيرورات الأمم والبلدان والجماعات والحضارات والثقافات، والوعي باللّاوعي، والعبث بالجدّ، والهزل بالرصانة، والضحكة بالوجع، والجموح والجنوح بالعهد والتعهّد والالتزام المتشدّد، والحرّيّة بالأكثر منها، والفجيعة بالعرس، ولتخلط الأزمنة بالأمكنة، والتواريخ بالمرويّات، والأساطير والخرافات بالأصول والحقائق، ولترشد الراوي إلى الحبكة والمأزق والخاتمة التي تختم ولا تنهي ولا تنتهي.
كان من حقّك أنْ تبقى. وأنْ تواصل العيش والكتابة، لأنّهما يليقان بكَ. ولأنّ عقلكَ، والروح المحيي، وقلمكَ، على رغم سنة وأكثر من التعذيب الجسمانيّ المشين، الذي لا يد لكَ فيه، كان يريد الامتشاق، والتحليق، والبقاء، والمعاندة، ليشهد، ويدلّ، ويضع الإصبع على الجروح. لا بدّ أنّكَ كنتَ تتوقّع معجزةً ما، وكان من حقّكَ أنْ تتوقّع، وتنتظر. ولأجل ذلك كنتَ حيًّا، فدائيًّا، وجسدكَ مائت. ما كان أبهاك!
وها أنت الآن بعد غلط الجسد الفادح، والخسران الفادح، تخسركَ في الجبل الصغير حكايات الجبل الصغير، وبيروتكَ، والعائلة الصغرى، والعائلة الكبرى، والمسرح، وغرفة الكتابة، والرواية، والمقالة، وأناشيد الفصول الأربعة، وبياض المناديل، وأخضر الدموع، وندى الفجر، ولمبات الليالي، والنجوم الساهرات، وآهات العصافير، وعطور أشجار الياسمين، والشبابيك المفتوحة، والشرفات، وأحلام الطفولات والفتوّات، والكنائس، وأجراسها، وقدّاسات منتصف الليل، وهجمة القيامة، وتراتيل أنطاكيا وبيزنطيا، وأجواق المرنّمات والمرنّمين، وأرصفة المشاة، والأدراج، والسلالم، وصولًا إلى البحر، وفقش الزبد على الصخور، وترجيعات الأمواج، وهسهسة المراكب، ونداءات الصيّادين، والملوحة مع اللوز، والعذوبة، والرجولة، ولباقة القول، ومتعة اللغة، وصفوة الرواية، وألف قصّة وقصّة.
وتخسركَ فلسطين، والشمس، وبابها، وبيت لحم، والجليل، والقدس، وسائر أراضي القيامة والحقّ والحرّيّة.
وتخسركَ الحياة. كم ستخسركَ الحياة. ونحن. وحركات التغيير. والحرّيّة. وأنا.
يا أخي الياس، باب الشمس يستقبلكَ. والجبل الصغير. سلامي إليكَ.