بقلم عقل العويط
رقاد ( إلى الياس خوري )
كأنّما همّت. بل أدمعت. بل رشحت في الهزيع الأخير. وكالأيقونة. وقليلًا. وبخجل. وهو التحنان ذاتًا. وموضوعًا. وبالأسلوب. وهو الغلالة. والقميص الشفيف. ورداء الرأفة. والتوق مطلقًا. والذوبان وَجْدًا. وقلْ إنّها قربانةٌ بالإيماء. وبالشوق. ومغمّسةً بنبيذ قانا المسيح. وبالدم الشهيد. ومشفوعةً بنظرةٍ لا تُرى إلّا بلهفة. وما أجملها. وما أطيبها التفاتةً عندما تتشبّه بالبَرَكَة. كالشيء الذي نسمّيه الخفر. كنزول نجومٍ مبلّلات لبلسمةِ حريقٍ. أو جرحٍ. أو غيابٍ. وسيّان.
وفي هذا الليل، في فجر هذا الليل الذي مضى، كان من المذهل أنْ يتحوّل الليل إلى قدّاس. وأنْ يرتعش التراب. وأنْ ينضح. ويبوح. ويفوح. ويصلّي. ومرتِّلًا. وفاتحًا ذراعيه. ومعه أجواق الملائكة من يمينٍ ومن يسار. وصوتٌ من الغيوم ينادي، على شبهِ روحٍ، أسوةً بهديلٍ وحمامة: إحملْ قَدَرَكَ وامشِ. وإلى أمام. وعاليَ الجبين. ومتماسكًا. وإنْ مغمضًا. وإنْ بعد وجعٍ عظيمٍ وجلجلة. وطعنتُكَ في الأحشاء. وهي لن تعود حشرجةً. بل، وعلى طريقة العشّاق والكتّاب والمؤمنين، ستكون رقادًا في السماء.
وقلبي يطالبكِ، يا سيّدتي نجلاء، وأنتِ يا عبلة، ويا ابن أخي طلال، ويا زوجتكَ ريّان، وأنتَ أنتَ يا يامن وليّ وليّ العهد، وسائر العائلة، والأحباب والرفاق، وجموع لبنان وفلسطين، وهلمّ، راجيًا اعتبار هذا الرقاد تعزيةً وانتقالًا. المسيح قام.
مشكلة لا خطأ
عندما يُنظَر إلى النصف الفارغ من كأس لبنان، ولا يُرى سواه، ثمّة ما يوجب استدعاء النصف الملآن، فلسفةً، وتأويلًا بالعقل.
روى لي عمّي نقلًا عن جدّي لأبي نقلًا عن أبيه وجدّه لأبيه أنّ أصل الحكاية هو هو، أبًا عن جدّ، ومن جهة الآباء والأمّهات على السواء، والخؤولة والعمومة، والأقربين والأبعدين، ولا بدّ من فهم الموضوع من أساسه على هذا الأساس، ووعيه بأساسه، والتصرّف على أساسه، لا كردّ فعل، بل كواقعٍ بنيويّ وجوديّ، وكفعلٍ واعٍ مطلق. لا مفرّ من ذلك، نصح لي. كلّ ما هو سوى ذلك، شططٌ مُفضٍ إلى شطط. وكلّما تراكم الشطط، تفرّق الناس، واحتربوا، وتفاقمت أحوالهم، وحادوا عن أصل الحكاية و… المشكلة.
قال لي إنّنا مشكلة (لا خطأ). ومشكلة دائمة. كحالنا مع الجبال. ومع البحار. أي أنّها بنيويّة، وعضويّة، وفي النخاع الشوكيّ. وكلّما، في لحظةٍ مفصليّة، معقّدة، متشابكة، متراكبة (داخليّة وخارجيّة)، غامضة، ومغمورة بالريب والشكوك والاحتمالات والغوايات والأخطاء، رأينا المشكلة تنمو وتزدهر، كان علينا أنْ نعاين عناصر “نموّها” و”ازدهارها”، ونضع أيدينا على هذه العناصر، لنعالجها بذاتها، لا طمسًا ولا تفاديًا ولا تهرّبًا ولا ترقيعًا، بل وعيًا بالعناصر، لأنّها قد تكون ربيبة المشكلة، ومن مفاعيلها التي تستسرّ، أي تظهر وتغيب، تبعًا للظروف والمعطيات والمتغيّرات، من دون أنْ تختفي تمامًا.
على سيرة “المشكلة”، كنتُ في عزاء، فسألتني ناشطة فتيّة تعمل بلا هوادة في مجال التغيير، أهي طويلة و”سوداء”؟ قلتُ ومتى لم تكن حياتنا كذلك؟ متى لم تكن مفجعةً ومظلمة ومؤلمة وموجعة وقاتلة ومميتة ولا تُحتمل؟ متى لم تكن تيهًا ومدًّا وجزرًا ولجوءًا وجلجلة وصليبًا ومعاندةً وتشريعًا للصدور ووقوفًا (لِمَ لا سيزيفيًّا) في وجوه الأقدار والمصائر الكالحة؟
يجب أنْ نعي مشكلتنا، وكوننا مشكلة، قلتُ لها، ومتى وعيناها جيّدًا وتمامًا، كان علينا أنْ نُعمِل العقل لا سواه لاحتضانها واستيعابها وتفكيكها، للخروج منها.
لبنان يستحقّ أنْ نعيه، ونحلمه، قلتُ لها. وإنْ يكن مشكلةً. ودائمة. وعضويّة. وبنيويّة. و… أبديّة!