كتبت ألين الحاج
7 تشرين الأول 2023… كانت اللحظة غير المتوقعة أقله لدى اللبنانيين، وتحديدًا أبناء الجنوب. يومها لم يتوقع أحد أن تنتقل كرة النار من غزة إلى لبنان وتتسع رقعة الصراع في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، حيث فاجأ “حزب الله” الخارج والداخل بإعلان فتح جبهة قتال انطلاقًا من بوابة الجنوب في خطوة شكّلت تعدّيًا سافرًا على مؤسسات الدولة وحقها في اتخاذ قرار السلم والحرب، وبتجاهل تام لأصوات مواطنين يطالبون بالحياد. ومنذ تلك اللحظة، غرق البلد الصغير في بحر عاصف، تتقاذفه الأمواج من كل جهة، لا يعلم متى سيصل إلى بر الأمان، أو إن كان سيصل على الإطلاق.
في الثامن من تشرين الأول 2023، غداة عملية “طوفان الأقصى”، كان لبنان على موعد مع بداية دوامة حرب الإسناد والمشاغلة التدميرية. وعلى مدى عام من الاستنزاف المستمر، نفّذت إسرائيل عمليات عسكرية كثيفة ومركّزة يومياً، استهدفت القرى والبلدات المحاذية للحدود حيث أقام “حزب الله” نقاط تمركزه، ما أدى إلى تدميرها ونزوح سكانها إلى مناطق أكثر أمناً. كذلك طال القصف المدفعي والغارات معظم القرى ضمن نطاق جنوب الليطاني، والتي يصل عددها إلى حوالى 50 قرية، وإن بوتيرة أقل. بالإضافة إلى ذلك، شملت الهجمات أهدافًا في بعلبك والهرمل والضاحية الجنوبية لبيروت.
الخبير الإحصائي في الدولية للمعلومات، محمد شمس الدين، أفاد في حديث لـ”المسيرة”، “أن الأضرار الاقتصادية التي لحقت بلبنان جراء حرب الإسناد والمشاغلة بلغت أرقامًا صادمة، حيث قدّرت الأضرار المباشرة بحوالى 450 مليون دولار، في حين أن الأضرار غير المباشرة تجاوزت الـ2.1 مليار دولار، ليصل مجموع الخسائر إلى نحو 2.6 مليار دولار”.
طغى الملف الأمني على السياسة، وبقيت ملفات عديدة معلقة أو تم تغييبها، في مقدمها استحقاق رئاسة الجمهورية وخبا وهج التحركات الدبلوماسية المتعلّقة به. في المقابل، برزت إلى الواجهة ملفات أخرى، وعلى رأسها إعادة تأهيل مطار القليعات ومرفأ جونية، بعد التهديدات الإسرائيلية لمطار رفيق الحريري الدولي.
من جهتهم، تابع اللبنانيون أخبار الجبهة الجنوبية بترقب شديد، وانقسمت الآراء بين مؤيدين يرون في الحرب دفاعًا مشروعًا ضد إسرائيل، ومعارضين يخشون أن يدفع وطنهم ثمنًا باهظًا لصراع غير محسوب العواقب قد يتجه نحو مواجهة شاملة. وفي ظل هذا المشهد، تعمّق التخبط السياسي في البلاد، وعجزت حكومة تصريف الأعمال عن إتخاذ قرارات فعالة، وازداد الانقسام بين الأحزاب، لا سيما بين “حزب الله” ومناوئيه.
ولم يكن العام الدراسي في مناطق الصراع بمنأى عن الخطر حيث واجه الطلاب صعوبات جسيمة في متابعة دراستهم نتيجة تعليق الدروس أو إغلاق المدارس كليًا بسبب القصف والأعمال القتالية، كما تصاعدت المخاوف قبيل الإمتحانات الرسمية، بشأن قدرة الطلاب على التقدم إليها في ظل بيئة مضطربة. ومع انطلاق العام الدراسي الجديد، يظل مصير التلامذة غير واضح، مما يضيف بُعدًا إضافيًا للأزمة القائمة.
القرى المسيحية تواجه
صمدت معظم القرى المسيحية وسط لهيب المعارك المحيطة بها من كل جانب، غير أن الموفد الخاص من قبل رئيس حزب “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع إلى بعض مناطق الجنوب، جان العلم، يشدد على أهمية دور المدارس في عملية الصمود وينطلق في حديثه إلى مجلة “المسيرة” من الملف التربوي ليؤكد أن “سيئات الحرب في دفة والمدارس في دفة أخرى”، معتبرًا أن عودة الطلاب إلى المدارس حضوريًا تُعدّ خطوة أساسية نحو تجاوز الأزمات التي تعصف بالمنطقة. فالمدارس ليست مجرد أماكن للتعليم، بل هي العنصر الرئيسي الذي يبقي الأهالي مرتبطين بأرضهم وجذورهم، وإعادة فتحها تشكّل مدخلاً لاستعادة الأمان والاستقرار، سيما وأن معظم من نزحوا عادوا إلى قراهم بسبب صعوبة الحياة في المدن الكبرى مثل بيروت، حيث ترتفع الإيجارات وتزداد تكاليف المعيشة.
لهذه الغاية، لم يدّخر حزب “القوات” جهدًا لاستعادة النشاط التعليمي في القرى والبلدات المسيحية ضمن قضاءي مرجعيون وبنت جبيل، وفقًا لما أكّده العلم، وذلك بالتنسيق مع البلديات المعنية، وتمحورت الجهود حول دعم المدارس الخاصة، التي يبلغ عددها ثماني، والمدارس الحكومية التي يصل عددها إلى ست مدارس، حيث يفرض الواقع الاقتصادي الصعب الحاجة الملحة للتعليم الرسمي.
في المقابل، يعترف الموفد الخاص بأن الأهالي دفعوا أثمانًا باهظة خلال عام من الصمود، سواء من ناحية الصحة النفسية أو الجسدية، إذ باتوا يعانون من غياب الأمان ويشعرون بالتعب بسبب البطالة، لا سيما وأنهم يعتمدون على الزراعة والأعمال الحرفية التي توقفت تمامًا. ويكشف أن الأهالي يعيشون في الوقت الراهن بالحد الأدنى، فيما تساهم المساعدات المحدودة من قبل الجمعيات والدعم المالي الذي يتلقونه من أقارب لهم مغتربين في استمرار صمودهم.
ويقدم العلم صورة أكثر دقة لمستوى الأضرار داخل القرى المسيحية، مبيّنًا أنها متفاوتة وتنقسم إلى نوعين “بعض القرى مثل بلدتي علما الشعب والقوزح شهدت قصفًا عنيفًا وأضرارًا كبيرة نتيجة وجود بنى تحتية لـ”حزب الله” فيهما، مما أدى إلى نزوح سكاني كبير منهما، لكن الأوضاع في رميش، عين إبل، دبل، القليعة، ومرجعيون كانت أفضل، إذ لم تتعرض المباني السكنية فيها لأضرار جسيمة ولم تشهد بالتالي نزوحًا كبيرًا”، مع ذلك، يتابع قائلاً “عانى الأهالي من خسائر كبيرة في القطاع الزراعي نتيجة الحرائق التي طالت الأشجار المثمرة مثل الزيتون والصنوبر من جهة، وحرمانهم من الوصول إلى أراضيهم بسبب تمركز عناصر من “حزب الله” في أطراف البلدات من جهة أخرى”. ويرى أن المستقبل يحمل في طياته احتمال وقوع كارثة جديدة بعد انتهاء الحرب، إذ سيُظهر فحص الأبنية السكنية المتواضعة مدى تضررها وتصدعها الشديد.
القطاع الصحي، بدوره، ليس بأفضل حال يضيف العلم، خصوصاً في ما يتعلق بالنقص في الأدوية وعلاج الحالات الحرجة التي تحتاج إلى الاستشفاء، مع غياب المستشفيات في المنطقة. ويؤكد أن “القوات اللبنانية” تساهم بشكل كبير في توفير الأدوية الأساسية بفضل مصادرها، بالإضافة إلى ما تقدمه كل من جمعية فرسان مالطا ومؤسسة كاريتاس من دعم في المستوصفات وعبر النشاطات الصحية
رميش النموذج
جنّب غياب نقاط تمركز “حزب الله” داخل معظم البلدات المسيحية تعرضها للاستهداف المباشر من قبل إسرائيل، لكن ذلك لم يحُل دون مواجهة أهلها ضغوطًا شديدة وظروفًا قاسية، يشير إبن بلدة رميش وكاهن رعية السيدة عين إبل الخوري جورج العميل.
ويضيف في حديث لـ”المسيرة” أن “رميش، وهي أكبر بلدة مسيحية حدودية من حيث عدد السكان، شكّلت نموذجًا صارخًا للصمود، حيث باتت “شبه معزولة” والبلدة الوحيدة المأهولة بين كافة القرى المتاخمة للحدود بشكل مباشر. تحيط بها قرى شيعية دمّرها القصف والنزوح، بدءًا من عيتا الشعب غربًا إلى يارون وعيترون شرقًا، بالإضافة إلى إسرائيل من الجنوب”.
ويكشف إبن البلدة عن جوانب قاتمة من حياة الأهالي اليومية خلال عام من الحرب “واجهنا يوميًا ولا نزال، خطر التعرض للرصاص الطائش الذي يصيب المنازل والسيارات وألواح الطاقة الشمسية نتيجة التمشيط الحدودي المستمر من الجانب المقابل، إضافة إلى القلق الناجم عن سماع أصوات مرعبة تتردد في أرجاء البلدة مع كل غارة إسرائيلية على أطرافها حيث تتمركز عناصر مسلحة”. ويؤكد أن العناية الإلهية دون سواها تحميهم.
الكاهن يلفت الانتباه إلى أن عدد سكان بلدة رميش يبلغ نحو ستة إلى سبعة آلاف نسمة يتوزعون على حوالى ألفي وحدة سكنية، ويضيف أن معظم الذين نزحوا من البلدة في الأشهر الأولى للحرب عادوا بسبب صعوبة العيش في بيروت، ليواجهوا واقعًا اقتصاديًا لا يقلّ وطأة، يتمثل في انخفاض النشاط الإنتاجي بشكل كبير، مشيرًا إلى أن الأهالي، يعتمدون على زراعة الدخان بشكل رئيسي فيما حالت القيود التي فرضها “حزب الله” لأغراض عسكرية دون وصولهم إلى أراضيهم الزراعية التي تقع على أطراف رميش، ولم يتمكنوا سوى من زراعة جزء ضئيل فقط في الأراضي الواقعة داخل نطاق البلدة ليتقلّص بذلك إنتاج الدخان إلى النصف.
ويشير العميل إلى أن حرائق عديدة نشبت بفعل القصف وتسببت بخسائر زراعية فادحة بعد أن أتت على آلاف الأشجار المثمرة مثل الزيتون والصنوبر، كما أثرت الحرب سلبًا على قطاع الماشية، حيث اضطر مربو الماشية، مثل الماعز والأبقار، إلى بيعها بسبب الظروف الصعبة.
تربويًا، يشير الكاهن إلى أن التعليم عن بعد ترك آثارًا سلبية على جودة التعليم بسبب ضعف خدمات الإنترنت وصعوبة تدريب المعلمين، معلنًا ضرورة إعادة فتح المدارس لتفادي عملية نزوح جديدة من البلدة، ومثمناً جهود المجتمع المحلي والمبادرات الخارجية لتحسين الوضع التعليمي، مثل دعم البلدية لمدرسة صيفية حضورية بتمويل من السفارة الفرنسية.
وفي معرض حديثه، يتطرق الكاهن إلى التأثير النفسي للحرب على أطفال رميش، مشيرًا إلى أنهم باتوا يميّزون بين أصوات الغارات والقصف وخرق جدار الصوت، ويتعلمون كيفية التصرف في مثل هذه الظروف مع تأكيده أن هذا الوضع غير صحي، وأن الأطفال يواجهون تحديات نفسية كبيرة بسبب الأوضاع الأمنية المستمرة.
7 كيلوميترات تراجع
يلفت الكاهن إلى أن الحركة الاقتصادية في المنطقة معطّلة بالكامل بسبب تعرضها للقصف اليومي المكثف والمدمّر، وهي تمتد على مساحة تراوح بين سبعة إلى ثمانية كيلومترات، وتتماهى مع ما يتم التداول به عن تراجع “حزب الله” مسافة سبعة إلى عشرة كيلومترات، مضيفًا أن “ذلك يعيدنا إلى ما يشبه “الشريط الأمني” القديم الذي كان قائمًا خلال فترة الإحتلال الإسرائيلي”.
ويعدّد القرى الواقعة ضمن نطاق هذه المنطقة، غربًا عيتا الشعب، راميا، مروحين، البستان، أم التوت، شيحين، يارين، طيرحرفا، الضهيرة، الناقورة والبياضة التي تعرضت ولا تزال لغارات كثيفة. أما شرقًا، فتشمل يارون التي يسكنها مسيحيون روم كاثوليك وشيعة، وقد دُمِّر الحي المسيحي ونزح حوالى 20 من عائلاته إلى رميش، فيما توزعت باقي العائلات على قرى أخرى، مشيرًا إلى تعرض بلدات مثل مارون الراس، عيترون، بليدا، ميس الجبل، العديسة، حولا، وكفركلا، الواقعة على الخط المباشر مع الحدود، لأضرار جسيمة.
في الخلاصة، يشكل تطبيق القرار 1701 مفتاح الحل للأزمة اللبنانية ويساهم تنفيذه في تعزيز سيطرة الدولة اللبنانية على أراضيها وتحقيق الاستقرار والسلام في البلاد. هذا القرار، الذي صدر عام 2006 بعد الحرب بين إسرائيل و”حزب الله”، يدعو إلى وقف جميع الأعمال القتالية ويشدد على ضرورة نشر قوات الجيش اللبناني وقوة الأمم المتحدة في الجنوب. كما يتطلب من إسرائيل سحب قواتها إلى ما وراء الخط الأزرق وإنشاء منطقة خالية من المسلّحين والأسلحة بين هذا الخط ونهر الليطاني.
فهل يُطبّق القرار 1701 قبل أن يتردد صدى “يا ليت” 2024 بعد “لو كنت أعلم” 2006؟
الأمين: الانتصار لا يكون على أنقاض وطن!
يصف السيد محمد الأمين، نجل العلامة السيد علي الأمين، في حديثه لـ”المسيرة”، حرب الإسناد والمشاغلة بأنها “حرب المسايرة لحماس، وليست المساندة لغزة”، ويضيف أن أخطر تداعياتها تمثلت في الوضوح الذي أبداه “حزب الله” وباقي الميليشيات المسلّحة التي ترفع شعار المقاومة، حيث صادرت قرار السلم والحرب من يد الدولة، معتبرًا أن هذه القوى، في إقدامها على خوض الحرب، تعلن عدم اعترافها بالدولة اللبنانية ومؤسساتها، وبالتالي عدم إيمانها بلبنان الرسالة، لبنان السلام، لبنان الحياد، ولبنان الدولة السيدة المستقلة. ويرى الأمين أيضًا أن الدولة باتت، باعتراف مسؤوليها وأركانها، تؤدي دور ساعي البريد متى توافقت مهامها مع مطالب “حزب الله”.
الأمين يذهب أبعد من ذلك ليؤكد أن تطبيق المساءلة أصبح أمرًا ضروريًا بعد الحرب التي جلبت الويلات إلى لبنان من تدمير وتهجير وقتل وتراجع وانقسام داخلي، ويشدد على أنه لا يوجد مبرر لأي حرب لا تتوافق عليها جميع الأطراف اللبنانية، حتى وإن ادعى القائمون بها تحقيق النصر، لأن “الانتصار ليس أنشودة على أنقاض وطن”.
وإذ يُقرّ بأن “حزب الله” نجح في تحويل الجنوب إلى مقبرة للبنان من خلال فتح جبهة الإسناد، يعيد التذكير بما اعترف به أمينه العام في وقت سابق عندما قال “لو كنت أعلم”، ويضيف “قد نسمع عبارة “يا ليت” بعد انتهاء هذه الحرب، على رغم إصرار الحزب على خوضها ضد إرادة اللبنانيين”.
في المقابل، لا ينكر الأمين أن مشاركة “حزب الله” في حرب الإسناد أتت بتوجيه إيراني، موضحًا أن إيران تسعى، من خلال ذراعها المسلّح، إلى تعزيز مكاسبها في المنطقة وتقوية نفوذها في الملفات العالقة. وفي لبنان، تهدف إلى تطويع ما تبقى من اللبنانيين الرافضين لهيمنة السلاح، وتعطيل الدور القانوني للدولة ومؤسساتها، وشلّ أجهزتها وتقويض جيشها، إضافة إلى جعل القضاء يخدم مصالح الحزب بدلاً من أن يحكم عليه.
ويبدي إبن العلامة، نظرة تشاؤمية في ما يتعلق بمستقبل لبنان، معتبرًا أنه سيبقى على حاله أو قد يواجه الأسوأ ما دامت الدولة تفتقر إلى الحكم والقدرة على استعادة القرار السيادي. ويشير إلى أن استمرار سلاح “حزب الله”، المرتبط بالمشروع الإيراني، خارج سيطرة الدولة، سيبقي لبنان ساحة مفتوحة على احتمالات الحرب الدائمة، ويسمح لـ”حزب الله” بالتمادي في الاستثمار داخليًا لأنه لا يطمح إلى دولة سليمة.
ولذلك، يؤكد في ختام حديثه أن المطلوب من الدولة بسط سلطتها على كامل أراضيها وإدارة كافة الملفات الداخلية والخارجية بشكل فعّال، بدلاً من أن تظل دولة تخدم ولا تحكم.