بقلم غسان صليبي
حاولت أن أفهمك يا أخي، يا ابن بلادي، يا عضواً (في) أو مناصراً (ل)”حزب الله”، فلم أفلح. كتبتُ مراراً لسيّدك الراحل أناقشه في ما يقول، وتحاججتُ معك في مناسبات عديدة، وفي كل ذلك محاولة مني لفهم مواقفك وسلوكك، لكنني -للأسف- لم أنجح.
أريد أن أفهمك حتى نستطيع العيش معاً وإعادة بناء دولة تحمينا من الأعداء، وتعاملنا بالتساوي، من خلال تطبيق القانون، وتؤمن لنا عيشاً كريماً في إطار من العدالة الاجتماعية.
في غياب السيد نصرالله، رحمه الله، فضّلتُ التواصل معك مباشرة، وعدم المرور بقيادتك الجديدة، التي على ما يبدو وللأسف، أصبحت إيرانية صرفة.
بدأتُ أجد صعوبة كبيرة في فهمك عندما ارتضيتَ أن يكون سيدك، وتكون أنت ورفاقك معه، جنوداً عند الوليّ الفقيه الإيراني، وفي الوقت نفسه رحتم تدافعون عن لبنانيتكم بوجه المشكّكين الكثر!
لا أفهمك عندما تعتنق عقيدة الوليّ الفقيه، التي تفتي بأنه هو من يقرّر عنك؛ وفي الوقت نفسه تؤكّد أنك تعترف بالدستور اللبناني الذي يقرّ أن الشعب، وأنت منه، هو مصدر السلطات ولا أحد يقرر عنه!
لا أفهمك عندما تكون يقظاً متأهّباً لمناقشة أي مساعدة تأتي إلى بلادك من صندوق النقد الدولي أو من البلدان العربية والغربية، مخافة أن يترتب عليها تبعية ما للخارج، في حين أنه لا يرفّ لك جفن، عندما تأخذ عقيدتك ومعيشتك وأموالك وسلاحك من إيران!
لا أفهمك عندما تصرّ على أن “حرب الإسناد” كانت سنداً لغزة وشغلت العدو، بعد أن شاهدتَ بأم العين، وبالتوازي مع “حرب الإسناد”، أن غزة دُمّرت وشعبها يباد، والعدو وسّع عملياته العسكرية إلى الضفة الغربية قبل أن ينقضّ على لبنان، بكل طاقاته العسكرية!
لا أفهمك عندما تردّ دفاعاً عن “حرب الإسناد” أن إسرائيل كانت ستشن حرباً على لبنان بحرب إسناد أو من دونها، متجاهلاً أن السيد نصرالله، بتمسكه بقواعد الاشتباك، كان كمن يقول لنا إن إسرائيل لن توسّع اعتداءاتها إن لم نوسّع نحن اعتداءاتنا. وهذا إقرار ضمني منه أنه لم يكن في نيتها من حيث المبدأ، شنّ حرب ضروس على لبنان. ألم يطمئننا السيد ويدعو الجنوبيين للعودة الى منازلهم، بعد ردّه على اغتيال فؤاد شكر؟
حتى ولو سلّمتُ معك أن إسرائيل كانت ستشنّ حرباً على لبنان بسبب أو من دون سبب، فإنك بفتح جبهة الجنوب، سهّلتَ عليها مسألة إيجاد حجة قوية للعدوان. فمظلومية سكان شمال إسرائيل، الذين أجبروا على النزوح من منازلهم بسبب قصف “حزب الله”، تلاقي دعماً عالمياً تلقائياً، لا سيما أن إسرائيل بنت عدائيّتها التاريخية تجاه محيطها على قاعدة مظلوميتها التاريخية في العالم الغربي، مضافاً إليها أنها لم تنفك تروّج أنها تعيش اليوم في بيئة معادية في العالم العربي. لقد سمحنا لإسرائيل بأن تقول للعالم، فيما هي تقتلنا وتدمّر وطننا، إنها تدافع عن نفسها!
لا أفهمك عندما لا تستغرب أن يقول السيد نصرالله على هامش إحدى خطبه إنه ليس على إيران وسوريا أن يشاركا في الحرب، وفجأة وبعد أن تجد نفسك معزولاً، وإسرائيل تدمّر بلادك وتقتل شعبك أو تهجّره، أراك تتذمر وتغضب، لأن البلدين لم يشاركا في صد العدوان عنك، حفاظاً على نظاميهما ومصالحهما!
لا أفهمك عندما تتذمر وتغضب أيضاً إذا سوّت إسرائيل مدنك وقراك بالأرض، لتصبح شبيهة بالساحة، في حين أنك ارتضيتها “ساحة” في ما أسميته “وحدة الساحات”!
لا أفهمك عندما تكرر أن الاستشهاد هدف حياتك، فيما تدافع عن حياتك ببسالة فائقة درءاً للاستشهاد.
لا أفهمك عندما تعتبر أنك تقاتل في سبيل الله، وتردد أن حياتك وحياة أفراد عائلتك وأملاكك جميعها “فدا صرماية السيد”.
أعترِفُ يا أخي، يا ابن بلادي، أنني لا أفهمك. ليست المشكلة، على ما أعتقد، في المفاهيم المستخدمة فحسب، بل على الأرجح في المنطق الذي نستعين به لربط الأفكار والخروج بالاستنتاجات. هل تكمن المشكلة في الفرق بين المنطق الديني والمنطق العلمي، أو بين منطق القوة ومنطق القانون؟ لا شك في أننا نخلط عشوائياً بين أكثر من منطق في محاولاتنا فهم بعضنا البعض.
أعترِفُ إذن، وأكرر، بأنني لا أفهمك، لكنني في الوقت نفسه أتوق لأن نتفاهم لنبني دولة معاً. لكن -للأسف- كلما ناقشتك بهدف فهمك، متسائلاً عن مواقفك، تسارع إلى تخويني. هل حقاً أنت لا تعلم أنني حتى أستطيع فهمك لا بدّ لي من أن أناقشك، وأن مناقشتك أصبحت عندي حاجة وجودية، لأنك تتحكّم بسلاحك بحياتي وحياة شعبي؟
أذكّرك أن سيدك الراحل قبل استشهاده بأقلّ من شهر، خاطبني أنا والذين كانوا مثلي يعارضون “حرب الإسناد”، وطلب منا أن نكمل حياتنا الطبيعية، مؤكّداً أنه لا يريد منا شيئاً سوى ألا نطعن المقاومة بالظهر. للأسف، لم يحاول إقناعنا بحربه، لنكون يداً واحدة في مواجهة إسرائيل، كما أنه لم يعطِ الضوء الأخضر لرئيس المجلس النيابي ليناقش مع النواب مسألة الحرب، وفق ما طالب بعضهم. هو لم يقل صراحة إننا مشروع خونة، لكنه شكك بأخلاقياتنا، مفترضاً انه يمكن أن نتحول إلى أبشع أنواع البشر، أي إلى الذين يطعنون بالظهر.
يا ليته بقي حياً ليكتشف أنه هو وحزبه طُعنا بالصدر وليس بالظهر، من إيران ومن أبناء جلدته ومن حلفائه، فيما نحن المشكوك بأخلاقياتنا فتحنا بيوتنا لاستقبال النازحين من بيئته الحاضنة، وذلك حماية لرؤوسهم وصدورهم وظهورهم، من غدر العدو الإسرائيلي.
ألا تكفي هذه المفارقات الفاقعة والمؤلمة في آنٍ واحد لإعادة النظر في الأفكار المسبقة، ولنحاول جدياً فهم بعضنا بعضاً، أم أنه حان الوقت لكي يمشي كلّ واحد منا في طريقه مع انقطاع الأمل في القدرة على التفاهم؟
النكبة التي نحن فيها، والتي قد تطول وتتفاقم تداعياتها، تحثنا بإلحاح على إيجاد توافق وطني حول قيام الدولة الديمقراطية، السيدة والعادلة، القادرة على حماية شعبها من العدو الإسرائيلي ومن التدخلات الخارجية المضرة بمصالحها. والشرط الأول لقيام هذه الدولة، وفق ما علمتنا التجربة الدموية الحالية، هو حصرية السلاح بيد جيشها وقواها الأمنية الرسمية.
وإلّا كان على المواطنين، الذين لا يريدون تكرار التجربة الأليمة كل عشر سنوات أو عشرين سنة، سلوك الخيارات الصعبة التي قد تبقيهم على قيد الحياة، حتى ولو على حساب الوحدة الوطنية بصيغتها الرسمية الحالية؛ هذه الوحدة التي قرر “حزب الله” التضحية بها من أجل “وحدة الساحات”، وذلك عندما اتخذ منفرداً قراراً بالحرب، من دون العودة إلى المؤسسات الدستورية، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار موقف الأكثرية الساحقة من الشعب، الرافض لـ”حرب إسناد غزة”، والتي تحوّلت إلى حرب إسرائيلية على لبنان، لا يسنده فيها إلا الأدعية وبعض البطولات المتفرقة.
يقول البعض إن الوقت غير ملائم اليوم لمثل هذا النقاش؛ فالحرب محتدمة، وقد تطول، فيما ربع الشعب مهجّر على أبواب الشتاء، والأولوية هي للمساعدات والاحتضان الوطني الخالي من أيّ نقاش سياسي.
أسأل هذا البعض إن كان كلامي سيكون ملائماً أكثر لو انتصرت إسرائيل؟ ألن يبدو عندها وكأنني أشمت بفئة من شعبي، وأخاطبه في وقت يعاني فيه من هزيمة، بدل أن يكون هدفي، كما اليوم، هو التواصل والتفاهم للخروج من المحنة معاً، وإيجاد مخارج وطنية سريعة للحرب تحول دون انتصار إسرائيل؟ أليس من الخطأ انتظار وقف إطلاق النار لبلورة توافق وطني (حول رئاسة الجمهورية وغير ذلك)، في ظل احتمال ألا يقبل نتنياهو بأي وقف لإطلاق النار قبل تحقيق أهدافه، تماما كما يفعل في غزة؟ ألا يشكل التوافق الوطني بحد ذاته عنصر ضغط على المستوى الدولي لوقف إطلاق النار؟
أما إذا صمد “حزب الله”، وحوّل صموده إلى انتصار، فخوفي كبير ألّا يلقى كلامي أيّ صدى عنده وعند مناصريه، لأن منطق القوة قد يعود ويحتل المنابر والساحات، كما علمتنا للأسف تجربة حرب ٢٠٠٦.