بالتأكيد، لا يريد الرئيس ميشال عون إقحام رئاسة الجمهورية في مستنقع الانتخابات. لا مصلحة له في ذلك. هو يعرف أنّ القادة الذين يصنعون لأنفسهم رمزيّةً معيّنة، تكون صورتُهم أشبه بالمرآة: إذا انكسرت يستحيل ترميمُها. ولكن، هناك مَن يسأل: هل رسَم الرئيس، تماماً، الحدَّ الفاصل لـ«النأي بالنفس» الانتخابي؟ وبعبارة أخرى: أين ينتهي دور عون – رئيس الجمهورية، وأين يبدأ دورُ عون- الرمز الأعلى لـ«التيار الوطني الحرّ»؟
يسمع عون كثيراً من الانتقادات لأداء السلطة في المعركة الانتخابية. وتصل إليه الشكاوى عن تأثير رئاسة الجمهورية لمصلحة لوائح «التيار الوطني الحرّ»، لكنه صامتٌ ولا يريد الدخولَ في مساجلات.
وسبق لعون أن قال: كل مَن يريد اتّهامَ مسؤول، عليه أن يمتلك الوثائق! وعلى الأرجح، لا يتداول عون هذه المسائل إلّا داخل الحلقة الضيّقة، وطبعاً مع الوزير جبران باسيل.
بعض المتحمّسين للعهد و»التيار» يستنكرون اتّهامَ العهد بممارسة السلطة انتخابياً، ويقولون: «فلنكن واقعيّين. نحن في لبنان ولسنا في سويسرا. دلّونا على مسؤول، عبر تاريخ لبنان، كان محايِداً في الانتخابات. في نظامنا، طبيعيٌّ أن يستثمرَ «التيار» ورئيسُه جبران باسيل رصيدَ «الجنرال» كرئيس للجمهورية. وليس واقعياً الفصل تماماً بين قوة «الجنرال» وقوة «التيار» الذي هو مؤسّسه ورمزه».
في اليومين الأخيرين، سمع القريبون من رئيس الجمهورية انتقاداتٍ عنيفة لما جرى في جبيل. وكان ردّهم: «نحن لا نستثمر زيارة الرئيس للمدينة. ولكن، ما ذنبه إذا كان حضوره افتتاح المؤتمر، المقرَّر مسبقاً، قد تمّ في زمن الانتخابات؟ وهل يجب أن يتوقّف رئيس الجمهورية عن زيارة كل المناطق، في فترة التحضير للانتخابات، لئلّا يقال إنه يمارس النفوذ؟
هذه التساؤلات تتوقف عندها مصادر سياسية: إذا لم يقصد عون أن تكون لرسالته في جبيل خلفياتٌ سياسية، فمَن أوعز بهذه العراضات الانتخابية التي واكبت الزيارة، والتي تبيَّن أنها محضَّرة مسبَقاً بعناية؟ ومَن نظّم المواكب الجرّارة من محازبي كسروان وجبيل وبيروت وسواها، المزوَّدة بمكبّرات الصوت والمزيَّنة بمئات الصور للمرشّحين والشعارات الانتخابية؟
وفي المدينة، هناك مَن يتساءل: لماذا التنكّر للآخرين ولأدوارهم؟ ولماذا تجاهلوا أنّ مركز علوم الإنسان، الذي يجري فيه المؤتمر، قد أُنشئ بدعم رئيس بلديّتها آنذاك، جان لوي قرداحي، بعدما كانت الترتيبات جاهزة لإقامته في خان الإفرنج في صيدا؟
قبل ذلك بأيام، ارتفع صوت النائب بهية الحريري في صيدا: «تعرَّض المرشح صلاح جبران لضغط من رئاسة الجمهورية و»التيار» لكي ينسحبَ من لائحتنا، قبل أيام قليلة من إعلانها. ولم يتحمّل الضغط فانسحب». وعلى رغم هذا الكلام الواضح، لم يصدر عن أيِّ جهة معنيّة ما يوضح الأمر، وكأنّ شيئاً لم يكن.
وفي دوائر انتخابية أخرى، ترتفع الشكاوى من استخدام لوائح «التيار» للنفوذ وسلطة المؤسسات. والمتن هو الأبرز، حيث لا أحدَ فتح تحقيقاً حول الشكاوى من عمليات تضييق على اللوائح المنافِسة.
ويتحدّث أبناءُ المتن عن ضغوط تلجأ إليها مرجعيات سياسية وأمنية وأجهزة إدارية، وتشمل البلديات والمخاتير والمفاتيح الانتخابية. فهل كل هذه الممارسات تمرُّ من دون علم رئيس الجمهورية أو من دون موافقته؟
لا تعليق من جهة القصر، وإمعان من جهة «التيار». ولا يتحرَّك أحدٌ للتقصّي عن حقيقة الأمر، علماً أنّ كثيرين، بينهم مرشحون من لوائح ودوائر مختلفة، طالبوا بتحويل شكواهم إلى إخبار، كالنائب سيرج طورسركيسيان الذي شكا من رشاوى انتخابية هائلة في دوائر عدة.
ولذلك، يصبح منطقياً أن يطرح بعضُ السياسيين أسئلةً من نوع: لماذا يسود الهدوء جبهة هيئة الإشراف؟ هل صحيح أنها واقعة تحت الضغوط؟ وهل مطالبة الوزير جبران باسيل بإجراء تعيينات في المجلس الدستوري، قبل أيام قليلة من الانتخابات، هدفُها أيضاً جعل المجلس في وضعية مشابهة لهيئة الإشراف على الانتخابات، ما يقطع الطريق على أيِّ طعن محتمَل بالعملية الانتخابية؟
يبدو باسيل وكأنه يحاول «ضبط» أعمال المؤسسات الرقابية كلها: المجلس الدستوري بعد هيئة الإشراف. وهو أساساً بذل المستحيل لـ»ضبط» اندفاع هيئات الرقابة، ولا سيما منها دائرة المناقصات، إزاء مشاريع الكهرباء والنفط وسواها. ولكن، ما هو موقف رئيس الجمهورية، خصوصاً أنه يبدو جزءاً من المشهد في بعض الأحيان؟
يقول البعض: إنّ سلوك الوزير جبران باسيل يدفع رئيس الجمهورية، من حيث لا يدري على الأرجح، إلى وضعيّةٍ لا يتمنّاها، لأنه سيعرّض صدقية العهد للخطر. فالرئيس عون قال إنّ عهده الحقيقي سيبدأ بعد انتخاب مجلس نيابي جديد وحكومة جديدة.
يعني ذلك أنّ «صبرَ» الناس على فشل عملية الإصلاح، بل زيادة منسوب الفساد أحياناً، في فترة العام ونصف العام التي مضت من العهد، طبيعي. وهم يريدون أن يصدّقوا أنّ هذه الفترة كانت بمثابة «تِحْماية» أو «روداج»، وأنّ المؤسسات ستقوم بعدها، وستحلُّ عليها نعمةُ الإصلاح والتغيير.
ولكنّ التصاقَ صورة الرئيس بصورة «التيار» وباسيل يمكن أن تكون نقطة ضعف له، كما هي نقطة قوة. فإذا تراجعت كتلة «التيار» في الانتخابات الآتية، كما هو متوقع، فإنّ التراجع سيصيب العهد ورئيسه أيضاً. وإذا ارتكب «التيار» أو باسيل أخطاء أو خطايا في السياسة أو في مسائل الإدارة ومفاهيم الإصلاح، فسيُصاب بها العهدُ أيضاً ويحترق.
على رغم ذلك، الوزير جبران باسيل يصرّ على استثمار رصيد عون لدعم لوائح «التيار» انتخابياً، أو ربما لدعم مرشحين محدّدين في هذه اللوائح.
ويقول البعض إنّ باسيل لن يصغي إلى أيِّ انتقاد له أو للعهد، ولن يوفّر أيَّ وسيلة ضغط، ولا تركيب التحالفات العجيبة الغربية في اللوائح حتى مع «الجماعة الإسلامية» كما في صيدا – جزين. فـ»مع باسيل ما في مستحيل»، سواءٌ كان هذا المستحيل مشروعاً أم لا.
الغاية تبرّر الوسيلة. والغاية هي أن يقود باسيل أكبرَ كتلة يمكن تأمينُها في المجلس المقبل. ولكن، كل ذلك، والرئيس صامت. لا يقول رأيه في الانتقادات والشكاوى. لا سلباً ولا إيجاباً. وقد لا يقول شيئاً حتى يمرّ يوم 6 أيار.
طوني عيسى