دون أدنى شك، تدفع السّياسات الأميركيّة «الفجّة» التي يجري تطبيق بعض أمثلتها في لبنان، قوى محليّة إلى اعتماد نماذج من التشدّد، وايضاً إجراء تبدّلات جوهريّة على أجسادها التي اُسّست هيكليّتها السياسيّة بعد الحرب.
السبب في ذلك يعود إلى تبدّل الظروف الحاليّة عن تلكَ التي نشأت خلال الحقبة التي تلت «اتفاق الطائف».. من هنا يُرشّح البعض «حركة أمل» لأن تتسيّد لائحة المتحوّلين!
الداعي إلى هذا الكلام هو التبدّل السياسي الذي دخل على علاقة قيادة «الحركة» بالمسؤولين الأميركيين، فبعدما رسمت العلاقة وفق قاعدة «من الند إلى الند» زمن الإدارات الأميركيّة السابقة وقادت إلى بناء علاقات جيّدة مع عدد لا بأس به من المسؤولين، انزلقت بشكل متهوّر إلى مستويات المواجهة الناعمة واحياناً الخَشنة مع أركان إدارة دونالد ترامب، ما يؤسّس إلى حصول تبدّلات ظرفيّة طارئة.
أكثر هذه المشهديات التي تزاحم الحضور الآن، لجوء واشنطن إلى اعتماد التلويح بفرض عقوبات على «حركة أمل» ورئيسها نبيه برّي متزامنة مع حُزم يجري فرضها على حزب الله؛ ولو أنّ هذا الكلام لم يصدر رسميّاً، لكنّ تسريبه والتعليق الإيجابي الذي لفّهُ به وزير الخارجيّة مايك بومبيو، سمحَ لوسط سياسي وازن من أنّ يُرشحّ احتمال حصول مواجهة سياسيّة محتدمة بين الجانبين.
ما يمكن لفت النظر إليه، أنّ برّي، عمّمَ على قياديي الحركة، وجوب التقليل من شأن العقوبات أمام الرأي العام وعدم تناولها إلى حدِ سحبها من التداول بعد حين، وقد نُقلَ هذا الطلب إلى صف المسؤولين المحليّين، لكن بعض المتابعين يرون أنّ أمراً ما يجري طبخه بهدوء من خلف الطلب الذي هو أبعد من نيّة لسحب ملف من التداول!
أكثر من ذلك، تشير أكثر من معلومة إلى إمكان دخول عوامل تشدّد تطبع تصرّفات «أمل» تُقابل الضغوطات التي يُلوّح بها ضدّها، ولهذه الاجراءات أنّ تنزع الكثير من التّفاهمات التي أبرمت على نحوٍ مباشر أم غير مباشر برعاية سوريّة مطلع التسعينات، وعلى هذا الأساس يمكن أنّ نرى نسخة منقّحة عن «حركة أمل»، مشابهة تماماً لتلك التي طبعت مشهدها خلال السبعينات والثمانينات.
وقياساً على ذلك، قد تدخل بعض التّفاهمات والأدبيات أو التوجّهات من انتاج زمن الـ90 ، مدار التعديل في «الحركة» على قاعدة إنّ تغير طريقة التعامل معها يدفعها إلى إجراء تبدّلات ترُاعي هذا التغيّر! والمرشّح، على ما تقول عدّة مصادر متقاطعة، التحوّل إلى الاصوليّة، أي العودة إلى الأصول والقواعد. ويبدو أنّ ثمّة من يدفع داخل الحركة إلى هذا الجو.
من المعلوم، أنّ «حركة أمل» اختارت في العام 1990 الانخراط بدائرة الدّولة ومأسست نفسها استجابة لقرار حل الميليشيات والعودة إلى حضن الدولة، لكن ذلك الفعل لم يكن مجانيّاً، ففي المقابل، نالت «أمل» لقاء تسليم السلاح الثقيل امتيازات في الدّولة، كتمثيل الحصّة الكاملة للطائفة الشيعيّة في المؤسّسات، وعلى هذا الأساس جرت القسمة الشيعيّة الشهيرة: «المقاومة لحزب الله والتمثيل السياسي لحركة أمل».
طبعاً، ابقيت هوامش للحركة لناحية المشاركة في العمليّات العسكريّة ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، استمرّ ذلك حتّى العام 2000 تاريخ الانسحاب، وبعد هذا التاريخ بسطت يد «الحركة» في السّياسة ومجالات الانماء كافة، لتستوي الطبخة وتتخلّى «الحركة» نهائيّاً عن فكرة السّلاح مقابل تبنّي منطق المقاومة السياسيّة، وهذا منحَ حزب الله صلاحيّات إضافيّة في العسكر. وقد ظهرت الترجمة الحرفيّة لهذا الدور في أكثر من نموذج، تحديداً خلال حرب تموز 2006 وما تلاها.
منذ ذلك الحين، تحوّلت «حركة أمل» إلى تنظيم سياسي محض بصبغة مقاومة «منزوعة السّلاح» وطبعاً تعزّزت الامتيازات، في السياسيّة والادارة والمشاريع والإقتصاد منذ ما بعد تحرير الجنوب، وكل ذلك تمّ برضى أميركي – أوروبي، سعى إلى انتزاع «الحركة» من ميدان المقاومة العسكريّة، وهو بالضبط ما حوّلته «أمل» إلى «تكتيك» استفادت منه لاحقاً.
كان لهذا التكتيك أنّ أبعدَ العين الأميركيّة عن «الحركة» لفترة طويلة جدّاً نزولاً عند رغبة المصالح التي كانت واشنطن تسعى من خلالها إلى محاولة الاستثمار في «أمل» وتحويلها إلى تيّار مناهض لحزب الله، لكن هذا ما لم يحصل.
اليوم ومع تبنيّ ادارة ترامب سياسة «رفع الاثقال» بوجه «حركة أمل»، ثمّة من يَطرح اعتماد الخيارات البديلة، أو العودة إلى النمط السابق، أي إلى السّلاح، وهذا يعني توسيع القسمة مع حزب الله لتشمل العسكر، وصولاً إلى طرح فكرة المشاركة على قاعدة التكامل، وفي هذه الخطوة ما يؤدّي إلى تبلور انخراط أكبر في مسألة المقاومة المسلّحة التي نشأت من رحمها «أمل».
هذه الاحتمالات تُطرح بقوّة داخل المجالس الداخليّة، ولو إنها حتّى الساعة تُعدّ مجرّد أفكار، تأخذ شكل ردّ الفعل على إجراء تعديلات على ميزان التّفاهمات، وقسم آخر يراها سبباً يجب استغلالهُ لتقوية جذور «الحركة» ومحاكاة البيئة بما ترغبه.. وبهذا المعنى لا يمكن تجريد الافكار عن النوايا أو العكس.
عبدالله قمح