في كلّ مرّة يتمّ التشكيك بإدارة أحد العاملين في القطاع العام ومصادر ثروته المولودة بين ليلة وضحاها، وكلما فاحت رائحة الصفقات والشبهات، نسارع إلى إشهار عبارة “من أين لك هذا”؟ وهي العبارة المرادفة لقانون الكسب غير المشروع أو الإثراء غير المشروع، أو بشكل أدق سرقة المال العام.
وفي كلّ مرّة تعود خلالها موضة مكافحة الفساد إلى الأسواق السياسية اللبنانية ويحلّ موسمها، نستذكر القانون نفسه. والسؤال البسيط هل شكّل هذا القانون مرّة واحدة معبرًا لإدخال سارق واحد إلى السجن؟
وفق ما يقتضيه المنطق يهدف قانون الإثراء غير المشروع في أيّ بلد إلى وقف الهدر في المال العام، ووضع حدٍّ للفساد المستشري، ومحاسبة كل مَن تبيّن أنّ النعمة حلّت عليه اثناء توليه الوظيفة العامة أو الموقع الرئاسي أو الوزاري أو النيابي أو الإداري. ولكن في الواقع لم يشهد اللبنانيون منذ صدور القانون أنّ أحداً من هؤلاء خرج من وظيفة عامة وخضع للمساءلة بموجب هذا القانون. وعندما يُعرف السبب يبطل العجب، فالقانون صاغوه كي لا يطبق، كيف؟
النائب السابق غسان مخيبر يشرح لـ “لبنان 24” ما يسميه “عصفورية القانون”. فيقول: “صحيح هناك منظومة تشريعية لمكافحة الفساد، ولكنّها غير فعّالة، وهناك قوانين كُتبت كي لا تطبق، وأبرز مثال هو قانون الإثراء غير المشروع، فهذا القانون هو شكلي وفعاليته توازي صفرًا”.
مخيبر وصف هذا القانون بأسوأ القوانين اللبنانية مفنّدًا عيوبه بـ “أبرز الثغرات تتمثل بوجود أسوأ نظام للتصريح عن الذمّة المالية. فالموظّف بدءًا برئيس الجمهورية وصولًا إلى آخر موظّف في إدارات الدولة، يفترض أن يصرّح عن ممتلكاته بموجب هذا القانون، وتصريحه هذا يُوضع في مغلّف مقفل لا يفتح، بحيث أنّ القانون لم يخوّل جهة ما بفتح هذه المغلّفات.
ولذلك لا فعالية لهذا القانون الذي يجعل من هذه التصريحات سرّية بالمطلق. بحيث يمكن لأيّ موظّف في الدولة من رأس الهرم إلى أسفله أن يقدّم تصريحًا عن أمواله، من دون أن يضمّنه أي معلومات، فمن يدري طالما أنّ هذه التصاريح مختومة بالشمع الأحمر”.
أضاف مخيبر: “أحصيت أكثر من ستين ألف تصريح في خزنة البنك المركزي، لم تُفتح يومًا ولن تفتح بموجب القانون الحالي، ومصيرها العفن، ولو وصلت الجرذان إلى تلك الخزائن لكانت أكلتها”.
وبالتالي تسابق المسؤولين الى تقديم تصاريح عن ممتلكاتهم وأموالهم المنقولة وغير المنقولة لا قيمة له، طالما أنّ هذه التصاريح ستبقى طي الكتمان. انطلاقًا من هنا عمل مخيبر تعديل هذا القانون ويقول عن هذه الخطوة: “عملت لمدة أربع سنوات لإعادة صياغة قانون جديد للإثراء غير المشروع، والتعديل يجعل من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الجهة المخوّلة لفتح كلّ التصاريح والتحقق من مضمونها.
وإذا وجدت أن التصريح يكشف عن حالة إثراء غير مشروع تحوّل الملف إلى القضاء المختص. كما يمكنها أن تحوّله إلى هيئة التحقيق الخاصة المرتبطة بالمصرف المركزي، التي تتحقق من ممتلكات الأشخاص المودعة في المصارف، فتتأكد إذا كانت هذه الأموال تتفق مع مداخيل الموظف الذي صرّح عنها”.
التعديل الثاني أجراه مخيبر في النظام الجزائي للإثراء غير المشروع “عدلنا في تعريف الإثراء غير المشروع، لأنّ التعريف الوارد في القانون الحالي لا يمثل الكسب غير المشروع. والتعديل الثالث جعلنا لهذه الجريمة عقوبات،بحيث أنّ القانون الحالي لا يتضمن أيّ عقوبة للإثراء غير المشروع “.
ويؤكد مخيبر أنّ أيّ موظّف في الدولة لم يُلاحق بموجب هذا القانون منذ صدوره عام 1952، ومن ثمّ ما لحقه من تعديلات في أواخر التسعينات. متحدثًا عن تقصير من النيابات العامة بسبب تغطيات سياسية. ويوضح أنّ الملاحقة غير ممكنة لأنّها تتطلب من المدّعي توافر الصفة والمصلحة للإدّعاء، ووضع كفالة مصرفية، فضلًا عن المسؤولية المترتبة على المدّعي في حال لم يتم التحقق من المعلومات التي أدلى بها”.
صحيح أن مخيبر قام بتعديل القانون ليصبح فعّالًا، ولكن التعديل لم يصل إلى الهيئة العامة، تحوّل من لجنة الإدارة والعدل إلى لجنة المال والموازنة. وهنا دعا مخيبر رئيس لجنة المال النائب ابراهيم كنعان أن يضع تعديل هذا القانون في اولويات التشريع في لجنة المال كي يُحوّل إلى الهيئة العامو ويُقرّ في أسرع وقت.
في دولة فاسدة يقول مخيبر “وبظل ادارة سيّئة ورقابة شبه معطلة،استغرب كيف أنّ الدولة لم تنهب أكثر”.
فضيحة قانون الإثراء غير المشروع الذي وضع لتنمو الثروات والنعم في كنفه ليس الفضيحة التشرعية الوحيدة، ومخيبر إلى جانب نواب سابقين وحاليين يعملون على إصلاح المنظومة التشريعية لتتخطّى معركة مكافحة الفساد الإطار الكلامي إلى الفعلي.