عن جدّتي وعمّة أبي وعن شؤونٍ وطنيّةٍ عظمى

جدّتي لأبي، الستّ مرتا الخوري يوسف حبيب حرب، وعمّة أبي، الستّ سليمة، اللتان توفّيتا في غابر الزمان، كان اسماهما لا يزالان مدرجَين (إحداهما يرد اسمها لا مرّةً واحدةً بل مرّتين) على لوائح الشطب في هذه الانتخابات الأخيرة.

أخبرني بهذه الواقعة في قريتنا بزيزا من أعمال الكورة، شخصٌ كان يحمل في يده لوائح الشطب. قال لي كان في مقدور جدّتكَ وعمّة أبيكَ أنْ تشاركا في عمليّة الاقتراع (كما حصل مع كثيراتٍ وكثيرين في بعض المناطق اللبنانيّة غير الخاضعة لسلطة القانون) لو كانت قريتهما ومنطقتهما الانتخابيّتان تقعان حيث الإفتاء المسلّح هو “الدولة”، وحيث لا وصول لـ”الدولة” إلى هناك، وحيث لا انتخاب ديموقراطيًّا ولا قانونيًّا ولا شرعيًّا ولا مَن يحزنون.

ذكّرتني هذه الحكاية التي تحمل ألف حكاية، بقطعة أرضٍ عندنا في القرية، كانت لا تزال على اسم جدّي لأبي، عقل داود العويط، بعد وفاته في غابر الزمان أيضًا، الذي أحمل اسمه الثلاثيّ حرفيًّا، ورقم سجلّه 34 بزيزا الكورة. جاءني أحدهم في أحد الأيّام عارضًا عليَّ أنْ أغضّ الطرْف، فيتولّى إجراء معاملة نقل ملكيّة قطعة الأرض هذه، لتصير على اسمي (على السكت)، وضبضبة عمليّة انتحال صفة (باسمي) وتزوير (توقيعي الذي للمناسبة أخذتُهُ شكلًا ومضمونًا عن جدّي)، لكي لا تذهب قطعة الأرض مشاعًا وإهدارًا ولا يستفيد أحد أفراد العائلة منها.

لا حاجة للقول إنّي رفضتُ الأمر جملةً وتفصيلًا، بل هدّدتُ الرجل بإقامة دعوى ضدّه فيما لو دبّر عمليّة نقل الملكيّة من وراء ظهري.

هذا كلّه ليس باب القصيد، وإنْ كان – على شخصانيّته الفرديّة والعائليّة – ذا مغزًى مبدئيٍّ وقانونيٍّ ومعياريٍّ وأخلاقيٍّ، يرتبط ارتباطًا جوهريًّا بمعنى المواطنة وبلزوم الانتماء إلى الدولة، لا إلى سواها: الدويلة مثلًا، والدويلات. أيًّا تكن الاغراءات والغوايات والمصالح والمطامع والمطامح التي تفرّغ الدولة من معناها، وتمرّغها، وتستولي عليها، وتجعلها مطيًّةً للاستعلاء والمصادرة.

إنّما أصل بالطرفتَين الآنفتين إلى حيث أريد استخلاص بعض العبر ممّا جرى انتخابيًّا، بهدف المساهمة في تدبّر مخارج دولتيّة – عقلانيّة – خلاصيّة للحظة الوطنيّة والسياسيّة والتاريخيّة الراهنة، بما تنطوي عليه من استحقاقاتٍ وتحدّياتٍ وجوديّة ومصيريّة.

كم هو تاريخيٌّ ومعبِّرٌ وجميلٌ و”مسخسِخٌ” ومفكِّكٌ هذا “التشظّي” في التمثيل النيابيّ الذي “أصاب” جدران الطوائف والمذاهب السنّيّة والدرزيّة والمارونيّة والأرثوذكسيّة والأرمنيّة (وسواها طبعًا عند المسيحيّين)، وليته “طاول” التمثيل الشيعيّ الذي بقي جداره الإسمنتيّ الأحاديّ المسلّح (الثنائيّ الوجه) حائلًا مانعًا دون تمكّن النخب الشيعيّة الأبيّة المناضلة والبطلة من اختراقه (حتّى الآن)، وإحداث ثقبٍ فيه، تحت وطأة الترهيب والقمع. هذا لن يتأخّر طويلًا. لا تناموا على حرير هذا الجدار بعد الآن.

سمعتُ بعد إعلان النتائج مَن يقول: “نرتضيكم خصومًا لنا في المجلس النيابيّ لكن لن نقبل بكم دروعًا لإسرائيل ولمن وارءها”، وسمعتُه يقول أيضًا “إن الفريق الآخر سيقود لبنان إلى الهاوية إذا رفض تشكيل حكومة وطنيّة”.

… وإلى “حربٍ أهليّة” (عجبًا عجابًا).

ذكّرتني “نبرة” هذا التصريح بغوبلز وستالين وهتلر وهم يهدّدون بالويل والثبور.

غوبلز وهتلر وستالين هم غوبلز وهتلر وستالين. لكن أنْ ينصّب أحدٌ نفسه وصيًّا أو واليًا أو ديكتاتورًا أو حاكمًا بأمره في لبنان، ويوزّع الشهادات في الوطنيّة والخيانة، فهذا ممّا لا يمكن تفسيره إلّا باعتباره تهديدًا علنيًّا، واستيلاءً على الدولة، وعلى لبنان الذي لا يزال حتّى الساعة، وعلى رغم كلّ انهياراته، دولةً ذات مؤسّسات، وجمهوريّةً ديموقراطيّةً سيّدةً حرّةً مستقلّة.

مَن أعطاكَ – يا هذا – هذا الحقّ؟ ومَن نصّبكَ – يا هذا – لتحلّ محلّ الدولة؟

أعجبتني مسألة “الحكومة الوطنيّة”.

شخصيًّا ووطنيًّا وعلى سنّ الرمح، لا أريد حكومةً “وطنيّةً”، فهي سرقةٌ موصوفةٌ وكذبةٌ عظمى وخيانةٌ وطنيّة. وكلّ مَن ينادي بها ويدعو إليها، يريد أنْ يمتطيها ليحصل على صكّ براءة يجب أنْ لا يحصل عليه بعد الآن.

ولا أيضًا أريد التجديد لرئيس المجلس.

ولا أريد أيضًا بعد الآن رئيسًا ذمّيّا (آخر) للجمهوريّة.

ختامًا، أكرّر: لقد سقط الطاغوت. فلنثمّر هذا السقوط دستوريًّا ووطنيًّا ودولتيًّا، بوعيٍ وعقلانيّةٍ وبعدِ نظرٍ و… صلابة.

وعليه، أدعو – مرّةً ثانيةً – الفائزين وخصوصًا منهم التغييريّين الثوريّين الذين لا ينتمون إلى أحدٍ، ولا إلى طرفٍ تقليديّ، ولا يرفعون شعار الطوائف والمذاهب، بل فقط يعملون من أجل لبنان الدولة، أدعوهم إلى مأسسة فوزهم، ومكننة مجموعاتهم ومكوّناتهم وهيئاتهم وقواهم، وبلورة رؤيتهم الوطنيّة والسياسيّة، ومنهج عملهم داخل السلطة التشريعيّة، وحيال مجمل قضايا الشأن الوطنيّ العامّ، وإحاطة أنفسهم بالحكماء وأهل العقل والبصيرة والرأي والمشورة والخبراء والباحثين من ذوي العقول والأيدي والجيوب النظيفة.

بهذه الطريقة يكونون جسرًا وطيدًا إلى الدولة المنشودة. والسلام.

بقلم عقل العويط

اخترنا لك