بقلم عقل العويط
“القدس عروس عروبتكم ؟ فلماذا أدخلتم كلّ زناة الليل الى حجرتها ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها وصرختم فيها أن تسكت صونًا للعرض ؟ فما أشرفكم! أولاد القحبة هل تسكت مغتصَبة ؟” ( مظفّر النوّاب )
عندما التقيتُ مظفّر النوّاب في أوائل السبعينات منفيًّا إلى بيروت، جالسًا يكتب وراء طاولة في مقهى “الغندول” الشهير (كورنيش المزرعة)، الذي كان آنذاك ملتقى قادة حركات التغيير والشباب والطلّاب والشعراء والأدباء والمناضلين والمنفيّين، كنتُ طالبًا في كلّيّة التربية بالجامعة اللبنانيّة، مختبر الحداثة الشعريّة والثقافيّة ومصنع الأفكار والثورات ( بل كنتُ أيضًا أمينًا للسرّ في اللجنة التنفيذيّة لاتّحاد طلّاب الجامعة اللبنانيّة و… شاعرًا ).
كانت صورة الشاعر الثوريّ النضاليّ والجماهيريّ تسبق بمسافاتٍ صورةَ مظفّر شاعرًا مجدِّدًا أو خلّاقًا أو طليعيًّا أو حديثًا. كان المعيار الشعريّ لا يترك مجالًا للتردّد، للتفكير، للتفكيك، للغربلة، بل كان آنذاك ينتزع “شرعيّته” النقديّة الفوريّة من سطوة الموضوع، من الخطاب، من النبرة، من الصوت، من الفكرة، من الموقف، ومن الجمهور.
ولم يكن يخطر في بال أحد، شاعرًا أو ناقدًا او أستاذًا أو مثقّفًا، خلال تلك اللحظة التاريخيّة التحويليّة، اللبنانيّة والفلسطينيّة والعراقيّة والسوريّة والعربيّة عمومًا، أن يضع الشعر النضاليّ والثوريّ في غربالٍ تقويميٍّ تحجيميّ، وفق منطق حكم القيمة الأدبيّ البحت.
كيف تغربل ( ألا تستحي أنْ تغربل؟ !) قصيدةً نضاليّةً ثوريّةً لمحمود درويش، لمظفّر النوّاب، لمحمد الفيتوري، لعبد الوهّاب البيّاتي، لسعدي يوسف، وأيضًا لنزار قبّاني، في حين أنّ قلبكَ وعقلكَ ووجودكَ كلّه يغرق في “القضايا”، ويتوهّج بها، ويعيش في فوّهة البركان، في وجع السعير، وفي شغب الجمر الحارق المضطرم؟
على سبيل القياس، أليس هو المعيار ( الجماهيريّ ) نفسه، يلجم النقد السياسيّ، يكتمه، ليضع النقاط على حروف الغربال الذي يغربل – على سبيل المثل – تجربة عبد الناصر، صورته، مكانته، وقعه في الوجدان الجمعيّ الجماهيريّ، و… هزيمته، وسوى ذلك من هموم العروبة والقوميّة العربيّة، ومسائل، من مثل القضيّة الفلسطينية والديكتاتوريات العربيّة والآسيويّة والأفريقيّة والظلاميّات العقليّة والإيمانيّة ونضالات شعوب العالم الثالث وهلمّ؟
لكن هذا كلّه لا يفسد لشعر مظفّر قضيّة (وكم بالأحرى لشعر محمود درويش، الذي عاد يكون في ما بعد شاعرًا كبيرًا محرِّرًا شعره من معيار القضيّة). هذا لأقول إنّ مظفّر كان أيضًا شاعرًا ( بما هو الشعر والشاعر ).
ولم يكن فقط شاعرًا – ثوريًّا – نضاليًّا – سياسيًّا – قوميًّا. عنده من الشعريّة ما يجعلنا نحتفي به شاعرًا موجوعًا لا يغيب شعره بغياب “قضيّته”، أو ينحسر بانحسارها. ماء الشعر عنده، كان قادرًا على المساهمة في تطييب القصيدة، وفي تقليل أدرانها غير الشعريّة. ثمّ، أليس مظفّر عراقيًّا ؟!
وهل تستطيع أنْ تسأل شاعرًا عراقيًّا من أين تنبع شعريّته ؟ سؤالٌ كهذا ينطوي في رأيي على نقيصةٍ شعريّةٍ – ثقافيّةٍ – نقديّة. العراقُ موهبةٌ كلُّهُ، وشعرٌ كلُّهُ، من بغداده إلى موصله الى بصرته إلى سامرّائه إلى نجفه إلى أهوازه إلى كربلائه إلى نينواه إلى بابله وأشوره، ومن رافديه إلى رافديه، وإلى ما بين الرافدين. فكيف لا يكون مظفّر شاعرًا ؟