بقلم قاسم يوسف
لنضع التكاذب جانبًا. ولو لمرة واحدة. ولنركن التوصيفات المنمّقة. والأدبيات السياسية التقليدية التي بلغت مبلغًا يتجاوز الميوعة ويجانب المنطق والصواب.
وليد جنبلاط ليس رادارًا. ولا بوصلة. ولا صمام أمان. ولا بيضة قبان. ولا قارئ حذق لتطورات المنطقة والعالم. وليد جنبلاط هو فقط ذاك الذي قيل فيه : لو تجّسد الغدر رجلاً لكان وليد جنبلاط.
كنا نظن أن انعطافته بوجه سوريا عام 2005 استندت إلى وطنية متجذرة في هذا البيت العتيق، وإلى انتقام متأخر ومستحق ثأرًا لدم كمال جنبلاط ومظلومية رفيق الحريري.
لنعود وندرك أن رهانه يومذاك كان على موجة دولية هائلة أعقبت زلزال 14 شباط، وعلى مآرب شخصية ومصالح سلطوية اصطدمت بالنظام الأمني المشترك في آخر أيامه، ثم سرعان ما بدأ انعطافته المضادة عقب تشظي المناخ الدولي المناهض لسوريا، وكان في الحالتين شديد البراعة، حيث استطاع أن يسوّق الشيء ونقيضه، وأن يقنع من يود إقناعهم بمنتهى السلاسة والسهولة.
استطاع أيضًا أن ينعطف مجددًا في وجه الانعطافة المضادة. شيء أشبه بمشهدية درامية أو كوميدية. ثم هكذا دواليك: انعطافة تلو انعطافة تلو انعطافة. وكأن كلام الليل لا بد سيمحوه النهار.
استحال الرجل تجسيدًا مُكثفًا لكاريكاتورية شخصية وسياسية تفتقد الحد الأدني من الثبات أو التوازن. هو متوثب في أي وقت لقلب الطاولة على من فيها. بل وجاهز أن يطعن حلفيًا أو صديقًا أو قريبًا في ظهره أو خاصرته، متى شعر أن مصلحته تقتضي الرفس أو القفز أو الطعن أو التسلق فوق جثث رفاق الدم ورفاق النضال ورفاق السلاح.
ليس لشخصية مثل هذه توصيفٌ دقيق يلحظ كل جوانبها المثيرة فعلاً للجدل والاستفزاز، إذ كيف يُمكن لأحد، أي أحد، أن يُقدم على ما يُقدم عليه وليد جنبلاط دون أن يشعر بالحد الأدنى من الخجل ومن احترام الذات واحترام الناس ؟ قبل أشهر قليلة صدّع رؤوسنا بسمفونية استهداف المختارة. وسحقها. وتركيعها. وشطبها. وكسرها. وعزلها. وكاد الرفيق الرشيق وائل أن فاعور يومذاك أن يُصاب في حنجرته إصابة بالغة، لشدة صراخه وهو يُحذر على منابر البقاع الغربي وراشيا من مؤامرة كونية للإطاحة بالحزب وزعيمه وكوادره وأشباله، ومعهم قطعًا كل الدروز.
ذهبت الناس إلى منحهم الثقة مجددًا بناءً على خطاب سياسي واضح، وعلى تحالفات لا لبس فيها. وهي قائمة على المواجهة الضارية مع حزب الله وبقايا 8 آذار. لم نلحظ حينها أي كلام عن مشروع أو فكرة إصلاحية اتاحت الولوج إلى التحالفات الانتخابية، بل كان التركيز منصبًا على الأهمية العميقة لبلورة مجموعة سيادية عريضة تحفظ البلد من الإنزلاق تمامًا إلى أحضان حزب الله.
الآن عاد وليد جنبلاط وانقلب على كل شيء دفعة واحدة. بشكل نافر ومستفز ودون مقدمات. ثم يأتي من يعيد على مسامعك الكذبة نفسها: ثمة خصوصية للجبل وحساسية مفرطة لتوازوناته ولموقع الدروز فيه. وكأن باقي المكونات السياسية والطائفية والمناطقية لا تمتلك خصوصيات أو حساسيات، ولو كانت الأمور على هذه الشاكلة، فالأجدى أن يذهب المسيحيون نحو انتهاج سياسات مماثلة، كونهم يمتلكون كل أسبابها الموجبة، وهي تتجاوز في شكلها وفي مضامينها العميقة كل الأسباب الموجبة التي يستند إلى وليد جنبلاط في تبرير انعطافاته، والتي صارت أقرب إلى مزاجية مفرطة منها إلى معطيات دقيقة تستدعي فعلاً التبصر وإعادة النظر.
في المحصلة. وليد جنبلاط هو وليد جنبلاط. صار مكتوبًا في مقدمة ناصيته: انتبه كوع. هو الحليف والصديق ورأس حربة، لكن لا يؤتمن له جانب. متوثبٌ حد الاشتباك، لكنه منبطح حد الاستسلام أو الموت. ذات مرة سألوا نبيه بري : ما أسباب قيام حرب العلم في بيروت بين حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي؟ قال لست أدري. أضاف مستغربًا: فعلاً لست أدري. أشعلها وليد جنبلاط. وكيف خمدت ؟ قال: لست أدري أيضًا. تابع مندهشًا وكأن الصدمة لم تبارحه: كنت أخلد إلى النوم مع انتصاف الليل. دخل مساعدي ليخبرني أن وليد جنبلاط عند الباب يريد رؤيتي. هممت إليه مسرعًا: ماذا تريد يا وليد؟ قال إيقاف الحرب. هكذا. بهذا النسق من البساطة ومن الجنون.
يطول الكلام عن الرجل ويطول البحث فيه وعنه، لكن يبقى أن مواقفه الأخيرة تعني مجددًا أن أي رهان على وليد جنبلاط هو ضرب من الجنون، بل هو الجنون بعينه، وتعني أيضًا أن البلد باق في فم حزب الله حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا.