سلمان رشدي… ثقافة هدر الدم، عود على بدء

بقلم محمد حجيري

قبل نحو 33 عاماً، أصدر روح الله الخميني، مؤسس الجمهورية الاسلامية الإيرانية، فتوى بإهدار دم الكاتب البريطاني من أصل هندي، سلمان رشدي يوم “عيد الحب” 14 شباط عام 1989. قال الخميني يومذاك إن “مؤلف كتاب “الآيات الشيطانية” – الذي تم إعداده وتحريره وطباعته ونشره للاعتداء على الإسلام والرسول والقرآن- وكل من تورطوا في طباعته ونشره ممن كانوا على وعي بمحتواه ومضمونه، قد صدر في حقهم الحكم بالموت. وأنا أدعو كل المسلمين الغيورين والمتحمسين الى تنفيذ حكم القتل فيهم وبسرعة”.

كثر فسّروا هذه الفتوى بأنها جزء من “الصراع على الاسلام” في العالم، وبحثاً عن شعبوية ما، دون أن ننسى أن الرواية تتضمن فصلا عن الخميني نفسه، وتصوره بصورة فانتازية ساخرة. وتحولت قضية شائكة في العلاقات بين الدول الغربية وإيران الأسلامية، وأتت في خضم انهيار المنظومة الشيوعية وبدء صعود هويات جديدة، ومن دون شك أصبحت احدى أهم القضايا الثقافية في مرحلة ما بعد “الحرب الباردة”… ولم يتردد الكاتب رفعت سيد أحمد في القول “إن (فتوى الإمام الخميني رحمه الله بإهدار دم سلمان رشدي قد لمست جرحاً قديماً لم يندمل، هو جرح الحروب الصليبية…).

فتوى الخميني بهدر دم مؤلف “أطفال منتصف الليل” غيّرت حياته، تلقى الفتوى وتوارى عن الانظار ووضعت له بريطانيا حراسة مشددة، وبات أشبه بالشبح المتخفي، وبدا التغيّر في حياته واضحاً من خلال مذكراته التي أصدرها في العام 2012 تحت عنوان “جوزف أنطون”(صدر بالعربية عن منشورات الجمل)، قال “أنا مكمم ومسجون (…) لا يمكنني حتى الحديث. أريد أن أركل كرة في حديقة مع ابني. حياة عادية مملة: هذا هو حلمي المستحيل”. تنقّل بين مساكن سريّة متعددة، وغيّر مكان إقامته 56 مرة خلال الأشهر الستة الأولى. وكان باستمرار وسط حراسة رجال مسلحين. وقد اختار اسم جوزيف أنطون تيمنا بكاتبيه المفضلين، الروائي البولوني جوزف كونراد والقصصي الروسي أنطون تشيخوف. أما بالنسبة لحراسه الشخصيين وعناصر الشرطة المكلفين حمايته فكان فقط “جو”.

وتحوي مذكراته هذه سرداً لقتل المترجم الياباني لكتابه “آيات شيطانية” ونظيره الايطالي الذي طعن في منزله. وثمة مقاطع أخرى أقل جدية تتناول عناصر الشرطة المكلفين حمايته الذين يقول عنهم “كنت أحبهم كثيرا” مثل “فات جاك” (جاك السمين) و”دنيس ذي هورس” (دنيس الحصان) اللذين كانا ينتهكان أحيانا الإجراءات لجعل عزلته أكثر تحملا سامحين له بالتسلل إلى قاعة سينما ما إن تطفأ الأنوار. وقد اقتاداه يوما مع ابنه إلى ملعب تابع للشرطة حيث شكلوا جميعا “فريق ركبي ارتجاليا”. وقد وضع حراسه في إحدى المرات خطة معقدة لنقله إلى المستشفى لمعالجة أسنانه. وأوضح الكاتب “أحضروا سيارة دفن موتى وكانوا سينقلونني مخدرا في كيس مخصص للموتى”.

إلا أنهم لم يضطروا في نهاية المطاف إلى اللجوء إلى هذه الحيلة. وكان للعيش في الخفاء تأثير كبير جدا على حياته الخاصة فقد انفصل عن زوجتيه الثانية والثالثة معترفا أنه خانهما. وتوقف رشدي عن استخدام الاسم المستعار بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001 بشهر، أي عقب ثلاث سنوات من إعلان طهران “انتهاء” التهديد له.

وكانت رواية “آيات شيطانية” خامس كتاب يؤلفه رشدي. وأكد أنه في الفترة التي تم فيها تأليف تلك الرواية “لم يكن الإسلام يشكل موضوع نقاش”. وأضاف “من بين الأمور التي حدثت أن الناس في الغرب باتوا يعرفون أكثر (عن الإسلام) من السابق”. ورغم السجال الذي أثارته الرواية، بقي رشدي متمسكا بما جاء فيها، ورد بحدة على سؤال عما إذا كان نادما على تأليف الكتاب: “لست نادما على شيء”. وكانت الفتوى الخمينية اسفرت عن أزمة بين إيران والغرب إلى جانب حصول تظاهرات كثيرة في بلدان اسلامية، ونجا رشدي من محاولة اغتيال العام 1989 من خلال كتاب مفخخ كان يحمله شاب يدعى مصطفى المازح، قتل بسبب عطل تقني وهو في طريقه لتنفيذ الفتوى، واليوم مع محاولة اغتيال رشدي في نيويورك، يحتفل بعض عناصر حزب الله بالمازح باعتباره “بطلاً”، ويحتفل البعض الآخر بالفتوى الخمينية، بينما لا تتردد بعض الأصوات باتهام “الموساد” بكل شيء.

لا شك أن الفتوى الخمينية أخطر من الاغتيال نفسه، فهي تؤسس لثقافة القتل والداعشية، خصوصاً أنها صادرة عن مرجعية دينية وشخصية مؤثرة، فخلال القرن العشرين تعرض الكثير من الكتّاب للسجن أو المضايقات، وأبعد بعضهم لكن لم تصدر فتوى اهدار دم على هذه الشاكلة. بعد فتوى الخميني، تعرض الروائي نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال بسبب روايته “أولاد حارتنا” على يد شاب أصولي لم يقرأ الرواية، والكثير من الكتاب اغتيلوا في العالم بسبب الكلمة من اللبناني مصطفى جحا إلى المصري فرج فودة، وراجت ثقافة التكفير وهدر الدم، خصوصا بعد موجة الرسوم الكاريكاتيرية ضد نبي الاسلام. وبقيت الفتوى الخمينية عالقة وموضع جدل طويل. المرجع الشيعي اللبناني محمد حسين فضل الله قال “إن فتوى القتل جعلت مسألة سلمان رشدي مسألة تتّصل بالحريات العامة في قضية الحرية في العالم، على حسب المنهج الغربي في قضايا الحرية. كنت أنتقد مواجهة الكتب التي قد تنتقد الإسلام بالفتاوى العنيفة أو بالقوّة، لأنّ العالم المعاصر الذي نعيشه يدعم أيَّ موقف مضادّ لعملية حرية الفكر، ولاسيّما إذا كانت القضية تتّصل بالإسلام كنتيجة للخلفيات التاريخية السلبيّة ضدّ الإسلام في هذا المجال.

ولذلك كنت أتبنّى في خطابي الفكري إهمال الكتب التي تنتقد الإسلام بطريقة وبأخرى، لتكون مجرّد كتب تناقش فكر الإسلام إلى جانب الكتب الكثيرة التي يتحرّك فيها المفكّرون في نقد هذا الفكر أو ذاك، وهو ما لا يجعل هناك نوعاً من أنواع الاهتمام والتحرّك في دائرة الضوء في هذا المجال، فتمضي هذه الكتب مثل أيّ كتاب في العالم. لذلك كنت أناقش مسألة الضغط على حريّة الفكر، وكنت أقول إنّه عندما نواجه العالم المعاصر، فإنّ اضطهاد الفكر يقوّيه، بينما إهمال الفكر يجعله أمراً عادياً في هذا المقام. وهذا ما كان يجعلني أنتقد الهيئة التي جعلت من نفسها في إيران هيئة تجمع المال لتنفيذ عملية القتل وَفْقاً لهذه الفتوى. وأنا أعتبر أنّ هذه المسألة كان يجب أن يسدل عليها الستار”.

ولم تجد الفتوى الخمينية حلاً حتى في خضم ولاية الرئيس الايراني السابق محمد خاتمي الذي عرف بـ”انفتاحه على الغرب” أو الآخر. حاول خاتمي إيجاد حل للمسألة لكن “مرشد الثورة الايرانية” علي خامنئي متشبث بالإرث الخميني والعداء للغرب وثقافته. ومع أن الحكومة الإيرانية نأت بنفسها طويلا عن فتوى الخميني ، لكن المشاعر المعادية لرشدي ظلت موجودة. وفي عام 2012، رفعت منظمة دينية إيرانية شبه رسمية مبلغ المكافأة على رأس رشدي من 2.8 مليون دولار إلى 3.3 مليون دولار. واستهان رشدي بذلك التهديد آنذاك، وقال إنه ليس هناك “دليل” على اهتمام الناس بالجائزة، في ذلك العام، نشر رشدي مذكرات بعنوان “جوزيف أنطون” تتناول الفتوى.

لم تترجم رواية “آيات شيطانية” بشكل رسمي ومعلن إلى العربية، قيل إنها ترجمت بشكل مجزوء ومشوّه في دمشق ووزعت على نطاق ضيق بين المثقفين والمهتمين بنسخ فوتوكوبي، وقيل أيضاً أن الرئيس العراقي صدام حسين أمر بترجمتها ليعرف مضمونها، وحين أصدر المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم كتابه “ذهنية التحريم وحقيقة الأدب”، بدا مضمونه اشبه بـ”فضيحة ثقافية” لمعظم الكتّاب العرب الذين تناولوا رواية “آيات شيطانية”. العظم العاشق للسجال والذي تعرّض للمحاكمة في بيروت بعد كتابه “نقد الفكر الديني”، عرّى معظم الكتابات العربية التي تناولت كتاب رشدي، وقامت في معظمها على رد الفعل وذهنية المؤامرة، فهم كتبوا عن “آيات شيطانية” من دون أن يقرأوها. وكان العظم من أوّل وأشدّ المُدافعين عن سلمان رشدي انطلاقا من دفاعه عن “الخيال الأدبي” ومنطق “أعذب الروايات اكذبها” على نسق “أعذب الشعر أكذبه”.

فقد حاول العظم تقريب رواية سلمان رشدي من القارئ العربي وذلك من خلال ترجمة مقاطع منه إلى العربية، و”نبش” تفاصيل تتعلّق بـ”قصة الغرانيق” وما أثارته في التاريخ الاسلامي، وهي القضية الأبرز في رواية رشدي، ولا تزال تثير الجدل في العالم الاسلامي.

كتاب العظم حفّز عدداً من المثقفين والمفكرين وحتى السياسيين(الجنرال الأسدي مصطفى طلاس) والنقاد البارزين على الرد والتعليق والاسهاب في كلام أتى في غير محله، كما أن ردودهم هذه أدت بدورها إلى تحريض المؤلف نفسه على مناقشتهم عبر “القضايا الكبيرة” التي أثاروها عن الأدب وعلاقته بالحياة والمجتمع والتاريخ والتراث والدين والسياسة والجمال إلخ، كما عبر المسائل المهمة الأخرى التي برزت تلقائياً في سياق ردودهم على المؤلف، في حمأة ما كُتب وما نُشر. وهذا جعل العظم يصدر كتاباً جديداً عنوانه “ما بعد ذهنية التحريم” على نسق “ما بعد الحداثة”، لعل أبرز ما فيه ليس السجال حول رشدي بل تعريف القارئ العربي ببنية روايات الكاتب البريطاني ومصادره التاريخية والمعاصرة، فأعماله الروائية مليئة بعوالم فانتازية سحرية مثيرة، وبأسلوب مليء بصور وأخيلة مكتظة بالحكايات والأساطير والخرافات وروح الدعابة الشعبية.

ويُعرف رشدي، الذي يحمل الجنسيتين البريطانية والأميركية، بأنه مدافع عن حرية التعبير في العالم. فقد حظي بشهرة لم يسبق لها مثيل في العالم، وصارت مواقفه تُسمع في الغرب سواء في حديثه عن الحجاب أو عن القضية الفلسطينية أو عن الاصلاح الديني. إنه الروائي الذي حوّلته الفتوى رمزاً لـ”حرية الرأي والتعبير” بالنسبة الى الغربيين، و”شيطانا” و”زنديقاً” و”مرتداً” بالنسبة الى الكثير من العرب والمسلمين الذين لم يقرأوا رواية “آيات شيطانية”، بل سمعوا فتوى الخميني فحكموا على رشدي من خلالها.

اخترنا لك