بقلم د. خالد محمد باطرفي – أستاذ في جامعة الفيصل
كأي طبخة ناجحة، يحتاج “الشيف” إلى المواد الأساسية المطلوبة، والتي لو نقصت عنصراً واحداً كالملح أو الزيت، خربت. و#الديموقراطية بتركيبتها الغربية الحالية، تختلف جذراً وتركيباً عن المعادلة الإثينية الأصلية. فكما أفسد الغرب البيتزا الإيطالية فحولوها إلى وجبة سريعة غير صحية، أعادوا إنتاج ديموقراطية روما البرلمانية والتي تضم “أهل الحل والعقد” من حكماء المدينة وإقطاعييها وجنرالاتها في مجلس الشيوخ بوصفة مختلفة، فسمحوا للعوام، المتعلم منهم والجاهل، الذكي والغبي، الواعي والمغيّب، البريء والمذنب، بالتصويت لمن يمثلهم في الكونغرس أو البرلمان.
كما سمحوا بتشرذم الأصوات وتوجيهها، وشرائها وبيعها، من قبل ماكنة انتخابية، رأسمالية، عقائدية، معقدة، تقودها أحزاب على السطح ودولة عميقة من وراء الستار.
اللعبة الديموقراطية
كبرت اللعبة، وتعقدت قوانينها، وتكاثر لاعبوها، وأصبحت بحد ذاتها مؤسسة كبرى تحرك الساسة وتصنع القادة وتصوغ القوانين وتوجه القرارات خدمة لمصالح القوى المؤثرة التي تمثل 1% من السكان، على حساب 99% من القطيع. وتشابكت مصالح كبار أهل المال والصناعة والطاقة مع جهات التنفيذ الإدارية والدبلوماسية والعسكرية والأمنية.
ووضعت الأنظمة الحاكمة لتدافع المصالح وتداخل الصلاحيات، لصالح النخب الحاكمة والمؤثرة، وليس لمصلحة الوطن والشعب.
ولكن عملية الانتقال من حكم الأباطرة والقساوسة والنبلاء والفرسان لم تتم بيسر وسهولة، بل عبر قرون من الحروب الدينية التي اشتعلت بين المحافظين الكاثوليك، والإصلاحيين البروتستانت في (1517) يقودهم القسيس الثائر مارتن لوثر. وانتهت عام 1712 بهدنة سادت فيها التعددية الدينية والعلمانية التي تقوم على قاعدة “الدين لله والوطن للجميع”.
الثورات وسقوط الإقطاع
وبالتوازي، تحولت الملكيات الأوروبية المطلقة إما إلى دستورية، تشريفية، كما في بريطانيا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا والدول الاسكندنافية والصين واليابان، أو إلى جمهوريات كما في إيطاليا والمجر وصربيا والنمسا وألمانيا. وسقط مع التحالف الملكي – الكنسي، النظام الإقطاعي، وفقد نبلاء أوروبا وشرق آسيا مزارعهم ومزارعيهم وعبيدهم، وتحول الناجون منهم إلى التجارة والأنشطة الاستعمارية والأحزاب السياسية الجديدة.
ثم جاءت الثورة الصناعية في مطلع القرن الثامن عشر، وتبعتها الثورة الشيوعية فالنازية في النصف الأول للقرن العشرين، ثم الحربان العظميان، فالثورة الثقافية الصينية والثورات الماركسية في شرق آسيا وجنوب أميركا في النصف الثاني.
كما ظهرت الحركة النسوية ثم النسوية الراديكالية التي تمردت على كل شيء حتى الإله، وصولاً للمطالبة بحياة دون ذكور. وأخيراً العولمة الاقتصادية والثورة المعلوماتية والتقنية الممتدة إلى تاريخه.
الفردية المطلقة
ومع كل ثورة، كانت المجتمعات البشرية تتفتت وتتحول إلى مجاميع أصغر فأصغر، حتى لم يبق منها إلإ الأسرة الصغيرة. فالحاجة إلى العمالة في المصانع والشركات الرأسمالية الجديدة والمعسكرات الشيوعية والجيوش، وثورة التعليم وتقدم شبكات النقل والمواصلات، فككت المجموعات إلى أفراد، يتنقلون طلباً للعلم والعمل والتجارة بين مواقع متباعدة.
وزادت الاعتمادية على النفس، ونشأت علاقات انسانية جديدة كالزمالة والصداقة المؤقتة والعلاقات الجنسية الطارئة. وفي غياب أو ضعف الوازع الديني والمرجعية المجتمعية، سهل كسر القيود والحدود والتصرف الشخصي، وبدأت بذلك مرحلة “الفردية المطلقة” أو “Individualism”.
سيطرة القوى الناعمة
ونتيجة لتطور عملية التواصل الجماهيري عبر الجرائد والمسرح، فالإذاعة والسينما، فالتلفاز ثم الانترنت، تمكنت النخب الحاكمة (الواحد بالمئة) من السيطرة والتأثير على الجماهير بأدوات “القوة الناعمة”. وهي أقل تكلفة وأقوى تاثيراً وأسرع انتشاراً وأكثر قبولاً من القوة الخشنة التي أوقفت صراعاتها “المعادلة النووية” بين القوى الحاكمة.
توقفت الحروب الكبرى، ونشطت الغزوات الصغرى، باستخدام التقنية الحديثة، مثل الجيل الخامس للاتصالات، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمنتجات الشعبوية، الترفيهية والثقافية والتعليمية، والإعلام التقليدي، الذي أصبح فضائياً ولحظياً ومجانياً.
تحقق للغرب “اليساري الراديكالي” و”الليبرالي الجديد”، جلّ ما خطط له من تفكيك المجتمعات، والعمل جارٍ على تفكيك الأسر، وصولاً إلى استعباد شامل وكامل للأفراد. وجاء الدور على البقية الناجية من المجتمع الأممي.
فرغم أن المشروع “الديموقراطي” بدأ منذ مئة عام، إلا أنه واجه إشكالية عدم توافر الموارد والخصائص التي تضمن نجاحه. وبقي المجتمع الشرقي عموماً، والعربي خصوصاً، متماسكاً قبلياً وعائلياً، دينياً وثقافياً، تسوده أعراف وأصول، وتحترم فيه المرجعيات والرموز.
تفجير المجتمع المحافظ
ولكي تتحقق الفردية المطلقة، كان لابد من تفجير المجتمع من داخله، بـ”تطوير” الدين، ومراجعة القيم السائدة، والانضمام إلى الحركات والمفاهيم الغربية المتحررة، والإلحاد، والحريات المنفلته، والمتمردة على السائد والموروث. ومن هنا نفهم الحرب على القبيلة، والمناداة بحقوق المرأة والطفل والشباب في اختيار الانتماء العابر لحدود المجتمع والثقافة والوطن.
ومن هنا نفهم تشجيع الفتيات في الأسر المحافظة على الهروب واحتضانهن في كندا وأوستراليا وبريطانيا وأميركا، وتشجيعهن على إعلان توجهاتهن الدينية والفكرية المستجدة، والتحريض على بلدانهن ومهاجمة ثقافتهن وتراثهن.
وفي المقابل، نستطيع أن نفهم حرص الغرب على فرض مفاهيمه للديموقراطية على الأمم الشرقية ونحن على رأسها. فمن خلال تمكين أجيال يحكمونها فكرياً يمكن لهم أن يحكموا بلداننا ويوجهوا سياساتنا ويرسموا مستقبلنا ويحددوا علاقاتنا مع العالم بدون أن يطلقوا رصاصة واحدة.
ورغم فشل التجارب الديموقراطية التي تبنوها والدساتير التي ساهموا في صياغتها في أفغانستان و#العراق و#سوريا ولبنان وليبيا واليمن والسودان وتونس، والانتفاضات ضدها والمراجعات عليها، ما زالوا يصرون على نشرها والدفاع عنها.
تجربة الحكم العربية
مشكلتنا في العالم العربي، وخاصة في جمهورياته، أننا لم نقدم أنموذجاً ناجحاً يحتذى، نرد به على الطروحات الغربية. لذلك يسهل على الأميركي والأوروبي أن يشير إلى فشل أكثر بلداننا في تحقيق التنمية المستدامة، ومحاربة الجهل والفقر والمرض، بتوفير المقاعد الدراسية، والوظائف والأعمال المجزية، والوقاية الواعية والعلاج الناجع.
ثم ينسب ذلك إلى ما شاء من الأسباب، بعضها مستحق كالاستبداد والطائفية والمحسوبية والفساد، وبعضها مختلق، كالدين والموروث والقبيلة والعائلة.
والحل في رأيي، أن لا نبدأ من الصفر، بل ننطلق من التجارب الناجحة في تاريخنا وحاضرنا. فليست كل التجارب العربية فاشلة، فهناك تجارب حققت المعجزات، كما في دول الخليج. وليس كل ما في تاريخنا خائباً، فلا زالت الحضارة الغربية مدينة لحضارة العرب في عصورهم الزاهية.
وإذا ما أردنا لأنفسنا نظام حكم رشيد، فلنعد إلى تراثنا الطويل وندرس بيئتنا وظروفنا، كمستوى التعليم ونسبة المتعلمين، والعلاقات المؤثرة، كالانتماءات الطائفية والقبلية والعرقية. ولنستلهم من حاضرنا أفضل تجاربه. ثم يحق لنا بعدها أن نبحث في تجارب الآخرين، وخاصة الأقرب منها إلينا، كدول شرق آسيا، وسنغافورة أنموذجاً.
دور العقل العربي
ودراسة الفشل لا تقل أهمية عن دراسة النجاح. ومن لا يتعلم من ماضيه وحاضره، لا يصنع مستقبله. ولو تدارسنا تغير أحوال كواكب مضيئة، كمملكة مصر والسودان وغزة، ومملكة العراق، وكجمهوريات سوريا ولبنان، لتعرفنا على أخطاء يمكن تفاديها، بقدر ما نستطلع من نجاحات يمكن استلهامها.
والدور على جامعاتنا ومراكز بحوثنا، علمائنا وخبرائنا، في كل مجال ذي صلة، من الاجتماع والتاريخ والعقائد إلى الإدارة والسياسة والقانون، وما بينها كثير، أن يبدأوا البحوث ويعقدوا الندوات ويتبادلوا المعرفة وصولاً إلى تصميم نظم شاملة متكاملة، تناسب كل مجتمع على حدة، وتتوافق مع مكوناته وطبيعته وظروفه. الساعة دقت الحادية عشرة، ووصلنا حد النهاية، فماذا ننتظر؟