بقلم د. ميشال الشماعي
أثارت رواية الكاتب البريطاني سلمان رشدي الرابعة “الآيات الشيطانية” غضب الجالية المسلمة في بريطانيا فتظاهر بعض الانكليز المسلمين ضدّه. وامتدّت المظاهرات العامة ضدّ الكتاب إلى باكستان في يناير/ كانون الثاني 1989. وفي 14 فبراير/شباط 1989 أدان الزعيم الروحي لإيران آية الله الخميني الكتاب علنًا، وأصدر فتوى بقتل رشدي، وعرض مكافأة على كل مَن سيقوم بقتله.
وبعدما تغذّى سرطان الحقد طوال 33 عامًا، أقدم الشاب اللبناني الأصل هادي مطر بطعن رشدي، 75 عاما، فأصيب بجروح بالغة بعد تعرضه للطعن وهو على خشبة المسرح، في أثناء مشاركته في فعاليه أدبية، في ولاية نيويورك. وسبق أن واجه الكاتب الهندي الأصل، سنوات من التهديدات بالقتل بسبب روايته هذه.
لقد أيقظت هذه الحادثة ضمائر البشريّة النائمة. تلك البشريّة القائمة على مبدأ التنوّع الذي يترجم صورة الخالق في خلقه. فكيف يمكن للإنسان أن يرفض العيش مع مَن يختلف عنه بالفكر ؟ وهل صار القتل وسيلة للتعبير عن الإختلاف؟ أيُّ دين سماويٍّ يشرّع القتل باسم الله ؟ وهل باتت البشريّة اليوم بحاجة إلى ترميم بعد الهدم الفكري الذي نجح بعض الحاقدين بزرعه في القلوب والنفوس وحتّى في بعض النصوص ؟
لغة الحوار وكيفيّة إنكار الشريعة
لغة الحوار كانت سائدة في زمن نبيّ الإسلام وكلّ الأنبياء قبله. فبحسب ما أفاد لموقع جسور العلامة السيد علي الأمين، عضو مجلس حكماء المسلمين “عقوبة الإرتداد المعروف عند الفقهاء باسم ( حدّ الردّة ) أن المستفاد من مواقف الإمام الصادق في قيامه بالحوار مع الزنادقة والمشكّكين ومن عدم دعوته لإقامة حدّ الردّة عليهم، أنّ القاعدة الأوليّة في الشريعة لا تقتضي ثبوت عقوبة القتل حدَّاً عليهم، وهذه القاعدة تستفاد من القرآن الكريم الذي لم ترد فيه عقوبة دنيوية على المرتدّ.” مع الإشارة إلى أنّ هنالك ” تطبيقات لحدّ الردّة حيث إنّ تطبيقه كان تدبيراً ظرفيّاً قام به وليّ الأمر دفعاً للمفسدة الأشدّ في بداية الدّعوة وكان مع انضمام عناوين أخرى إليه كما يظهر ذلك من حدّ المحارب، لأن المحارب ليس مجرد المنكر للعقيدة وإنما هو الذي اقترن إنكاره بالسعي للفساد في الأرض.” ويزيد في هذا السياق السيّد علي الأمين : ” هذا يعني أن تطبيق حدّ القتل على المرتدّ كان مقترناً مع عمل جرميّ يستوجب العقوبة الدنيوية، وليس لمجرد إنكاره بالقلم أو اللسان، فالمحارب لله ولرسوله ليس هو الخارج عنهما بمعتقده الذي أظهره بلسانه أو قلمه وفكره، بل هو الخارج عليهما عمليّاً بسعيه لزعزعة السلامة والنظام العام.”
ويستشهد العلّامة بهذا السياق برواية ” حادثة عبد الله بن أُبَيّ الذي آذى رسول الله بلسانه ولكنّ رسول الله رفض قتله عندما قال له بعض أصحابه دعني أضرب عنق هذا المنافق، فالسّعي للفساد في الأرض بالخروج المسلّح على نظام الشريعة يشكل تجسيداً عملياً لإنكار الشريعة وصاحبها.” فهذه الرواية وغيرها الكثير من الروايات التي كتبت ولم يكتب بعضها “هي تعكس أجواء الحوار والإنفتاح التي كانت سائدة في عصر النبيّ مع المختلفين في الفكر والإعتقاد، وهذا هو الموافق لقاعدة نفي الإكراه في الدين.” على حدّ ما أوضح لنا سماحته.
الابتعاد عن طرق التنفير والتكفير
في هذا المستنقع من التعصّب والجهل، يشير سماحته إلى أنّ “دور الأئمة والعلماء تعليم الأمة لأحكام الشريعة ونشرها والدفاع الفكري عنها اعتماداً على أسلوب التبشير والإبتعاد عن طرق التنفير والتكفير، وكان تطبيق تلك الأحكام على الموضوعات وتنفيذها على الأشخاص متروكاً للقضاء وللسلطة التنفيذية من باب لزوم نظم الأمر والحفاظ على النظام العام الذي تحفظ به الحقوق.”
وفي موضوع مَن يحقّ أن يكفِّرَ مَن ؟ أجاب السيّد الأمين أنّه “لم يكن من حق أيّة جماعة دينية أن ترمي شخصًا بالكف، وأن تقيم عليه حدًّا شرعيًّا متجاوزة دور السلطات القائمة، وهذا هو الخطأ بل الخطيئة الكبرى التي وقعت فيها جملة من الحركات الدينية المعاصرة التي تحكم على غيرها بالكفر والارتداد وتعمل على تطبيق الحكم وتنفيذه بدعوى حاكميتها وتنفيذها لأحكام الله متجاوزة بذلك دور السلطة الناظمة للأمر والتي لا بدّ منها في قيام المجتمعات والدول والأوطان.”ورأى سماحته أنّ “الإساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لا توقع الضَّرر بالإسلام والمسلمين، ولكن ردّات الفعل الآثمة هي التي تسيء إلى الإسلام وتلحق الضرر بالمسلمين.”
ولعلّ هذه المسألة هي الأكثر إساءة إلى الإنسان بغضّ النّظر عن أيّ انتماء اعتنقه. وهنا يجب التنبّه إلى أنّ الإنسانيّة بحدّ ذاتها هي براء من كلّ الذين يدعون إلى القتل بإسم الدين. فالله لا يدعو إلى القتل باسمه. الربّ رحمن رحوم ورحيم. ” لكنّ أعظم ما يسيء إلى الإسلام ويلحق الضرر بالمسلمين المنتشرين في البلاد، بحسب الأمين،هي ردّات الفعل الآثمة التي تسفك فيها الدماء ويروع بها الآمنون والتي لا تنسجم مع الغاية التي بعث الرسول لتحقيقها والتي عبر عنها بقوله: إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”.
ويرى الأمين أنّ ” أعظم ما ينفع الدعوة إلى الإسلام هي تطبيق تلك القيم الأخلاقية ومبادئ الأخوة والعدالة والتسامح بين المسلمين أنفسهم ومع شركائهم في أوطانهم وفي علاقاتهم مع الأمم والشعوب الأخرى في العالم.
إن الإسلام يريد منّا أن نكون دعاة له كما قال الله مخاطباً رسوله : ( أُدْعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة ) وأن نقول للمسيئين ( سلاماً ) كما قال الله تعالى: ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) وبذلك نقطع الطريق على الساعين من وراء هذه الإساءات للرموز الدينيّة إلى تأجيج الصراعات وتعميق الإنقسامات بين أتباع المذاهب والديانات.” كما قال السيّد الأمين.
وختم الأمين:”لذلك يجب الإبتعاد عن اعتماد الأساليب المرفوضة بالإحتجاج التي تؤدي إلى التجاوزات والإعتداءات وشحن النفوس بالكراهية والأحقاد، ويجب العمل على إفشال تلك الأهداف والغايات بالتركيز على ما دعت إليه الرسالات بالتنافس والتسابق إلى فعل الخيرات التي تعزز الروابط الإنسانية بين الأمم والجماعات.
واستشهد الأمين بقول الله في كتابه: (.. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )