يا شوقي أبي شقرا يا فتى الهيكل يا “أنتَ والأنملة تداعبان خصورهنّ”
فأيّ غزلٍ وأيّ سحرٍ وأيّ دهشاتٍ وأيّ مداعباتٍ وأيّ خصور
بقلم عقل العويط
“مداعبات” شوقي أبي شقرا لـ”خصورهنّ” في ديوان يصدر اليوم غدًا بعد غد. معقول ؟! كلّ شيء معقول.
أليس شوقي هو فتى الهيكل ؟ وما الهيكل ؟ وفي الهيكل، ماذا يوجد في الهيكل غير الكاهنات المتعبّدات الحبيبات الآنسات السيّدات العشيقات الغاويات الأرتيسات الكونتيسات الأريستوقراطيّات الهاربات المحلِّقات في الهواء الطلق، في الحرّيّة، في غيمات الجموح الخلّاق، والسابحات “على بساطٍ أحمديّ”، سواءٌ أكنّ ترغلّاتٍ أم صُوَرًا أم نساءً أم كلمات ؟
أيًّا يكن شأن المداعبات وشأن الخصور، وأيًّا يكن سرّهنّ، ليس لي سوى أنْ أقول مرحِّبًا: حسنًا حسنًا أيّها الشاطر شوقي، أيّها السنجاب الحبّوب، يا الساحر النطناط، الحامل أكياس الدهشة والذهول والفانتازيا والغرابة والمجانيّة و… أكياس الفقراء، الحامل التفّاحة، الجالسة بكامل حيرتها على الطاولة، والمقبل بكلّ عافيتكَ، بكلّ أناملكَ على خصورهنّ، عارضًا عليهنّ المداعبة والرقص إلى آخر الليل، إلى الفجر، كمثل فتًى نبيلٍ، كمثل مراهقٍ في الثلاثين في العشرين في الثمانين أو أكثر أو بين بين.
وأنتَ في كتابكَ هذا، لا تكفّ، يا شوقي، يا شوقي أبي شقرا، عن الشيطنة الذوّاقة، عن رمي الفخاخ، عن الاختباء تحت الطيّون، تحت العلّيّة، في الحديقة الخفيّة، بين أزهار الغاردينيا والفلّ والياسمين، تشكّ الأغاني والأزاهير حيث تشاء، وترسل الصداح، وتكتب النشيد، ولا تكفّ عن الغزل، عن المراودة، عن قَرص العروس في خدّها، في إليتها، وأنتَ الذي تمعن يدكَ في طلب المستحيل الجميل، ولا ترتدّ عيناكَ عن الدغدغة، عن البريق، عن الزقزقة، عن السباحة، عن الطيران، عن التحليق، إلى حدّ الطيش، والنزق، والغياب، والغيبوبة، والدوار.
وها أنتَ تنزل من الشجرة، حاملًا أكياس القطاف والثمار، لتستريح في الفيء، في الظلّ، لتشرب الماء السلسبيل، وترتوي يا سبحانه من الماء المتحوّل خمرًا، وتضحك، وتقهقه، ثمّ إلى حلبة الرقص، إلى تدبير المقالب، إلى الوادي، إلى البحر، إلى الغابة، إلى جرن المعموديّة، إلى ساحة الضيعة، إلى عيد القدّيسة منمن، حاملًا الناي، وعنقود العنب، وآلات الطرب والغواية، شابكًا اليد باليد على الدبكة، مجترحًا الفتن المهيبة بين الثعالب والديكة، وراكبًا حصان مار جرجس، طاعنًا التنّين والأشرار، ملاحقًا اللصوص، تقفز من غصنٍ إلى غصن، من غيمةٍ إلى غيمة، من نجمةٍ إلى نجمة، تتزعرن على الصبيّة السمراء الشقراء، تفزّ فزًّا على اللغة، على صدر اللغة، تتزعرن باللغة، تعرّيها، تقبّلها بالشفاه بالأنامل، تلحوسها، تغسلها بالطيوب، بالزوفى، بالناردين، بالعنبر، بالماء العذب، بماء الورد، بالنبع، تجعل أناملكَ على صدرها، على ساقيها، بين الساقين، وإلى أعلى، وإلى الداخل، وعلى شفا الشفتين المكتنزتين، وأحيانًا تتوغّل، ولا ترعوي، لتشهّيها بجسمها، بقوامها الرقراق، بكلماتها المعسولة، بقدميها الحافيتين، بخطواتها الجسورة اللمغناجة، بالمنديل على شعرها، بنظراتها الغير شكل، بخصرها، بثدييها المتورّدين، لتجعلها تحمرّ من فرط البحبوحة، من موهبة العسل الناضح السكران، شغل مواطن النسور.
وتحمرّ، وتغار من النحلة، من الدبّور، من الزرقطة، من الفراشة، ومن البلبل ينقر تينها وعنبها، ثمّ يؤوب مبتعدًا ليأتي بأنثاه البُلبُلة، ليتغنّجا، فتطير الجنينة من الحمحمة، من الصهيل، من حمأة الابتكار والإدهاش، وهو الجنس خالصًا، وتتورّد، وتتحفّز، وتتراقص متلوّيةً على جمر النشوة، وتسافر أنتَ باللغة، باللغة الأنثى، بعروس العبارات والصُوَر والجمل والإيقاعات، تسافر إلى سائر أنطاكيا، إلى سائر المشرق، راعيًا للرعاة، راعيًا لرعاة الشعر والنثر، لتنشر الدعوة إلى العرس، إلى حفلة قانا الجليل، إلى الوليمة، تُشارِب المدعوّات والمدعوّين، تُكائِسهم، وتقرع العرق البلديّ والنبيذ، نبيذ العنب والجسد، وتكتب الكتاب، وهو كتاب الشقاوة والمراهقة، محمولًا بيدكَ يا الصبيّ الشقيّ الداعس على الحصى، على الحجارة، الهاربة من تحت قدميكَ إلى قعر الوادي، لتشمّ رحيق النهر، وتغتسل على الصخرة، تحت الدلبة، تحت شجرة الحور، وتكمل حبوركَ حتّى آخر صفحة من الديوان الصادر حديثًا لدى “دار نلسن”، وبأيّ عنوانٍ يا شوقي.
وأسمّيكَ الصبيّ الأزعر اللذيذ، مستعيرًا من صديقكَ فؤاد كنعان عنوانه المراوغ “يا صبيّ يا أزعر يا لذيذ”، وأنتَ، كما كتابكَ الجديد هذا، صبيٌّ وأزعر ولذيذٌ، تحمل فورانكَ اللغويّ، وتفرفر، وتمتشق بارودة الصيد، وتدبّر خلطة الدبق، ولا تقتل العصفور، ولا تؤذيه، ولا تحبسه، بل ترعاه، وتدلّله، وتتلهّف على الخصور، على الأرداف، على الكنوز، وتحور وتدور، لتمدّ يدكَ كما يفعل الواوي بأسنانه البيضاء يملش عنقود العنب تحت ضوء القمر، واقفًا على رجليه، رافعًا يديه، جاعلًا أسنانه بلا خجل، على الخصلة الشقراء، يملشها ملشًا، ويضحك ملء نواجزه، ويروي لرفاقه الواويّة أنّه فاز بالعنقود، بالدالية، وأنْ تعالوا إلى هنا، إلى حيث الوليمة والسهرة والقهقهات، تسمعها الدجاجات، فتنزوي في القنّ، في الزاوية، في العتمة، لئلّا تنبس بالزفير، بالشهيق، أو برفّة ريش أو جناح، فيأتي الواوي فيشمّ الرائحة، ويعلن الجوع، فيُغير على القنّ، فيفرّ مَن فيه، لكن هيهات وإلى أين، فالأزعر ابن آوى وزوجته بنت آوى يتحضّران للعشاء الفخم، ويرتديان المئزر، وينتفان الريش، ويلويان الأعناق، ويقرعان الكؤوس بالكؤوس، ويسترخيان مع الأشقّاء والشقيقات.
ثمّ تغادر الزوجة مبكرةً إلى بيتها، وينام هو على ظهره، ليستريح، ويتدشّأ، ويفترض أنّ الوقت تأخّر، وأنّ العودة إلى الأوكار، إلى الأوجار، لا بدّ منها، بعدما تأخّر الليل، وها النجوم تكاد برفقة القمر تسرّب إلى النوم، وها يكاد ينقشع الضوء، وتأتي الشمس فتفضح كلّ شيء، فينكشف المستور، لأنّها الشمس لا تنام على سرّ، ولا على ضيم.
والأنثى هي دائمًا اللغة، ولو أوحيتَ، يا شوقي، بغير ذلك على سبيل الحياء والخفر والملعنة، فتروح بها إلى حيث لا خيال يروح، إلى الجموح، إلى آخره، فتكسر المتعارف عليه، والقواعد، وتلوي القوانين، ولا تعظ، ولا تهدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور، لئلّا يهشل الناس من القدّاس، ويزعل يوم الأحد، ويأخذ الخوريّ على خاطره.
وأنتَ تفعل عين الصواب، ولا ترتكب إلّا ما لذّ وطاب من الهفوات التي تهواها الفتيات والحسناوات الكلمات والغواني والملائكة، وفي موكبها طيور الفردوس والترغلّ والحجل تعبر سهول القمح وتأكل السنابل وترمي أعواد القشّ والقشور لأسراب النمل، تأتي لتستكمل وظيفة النظافة والأناقة وبشائر البركة والشبع، وكلّ ما ينظّم القوافي والبحور السبعة وما وراء البحور.
وما ألطفكَ، يا شوقي، حين تظهر فجأةً وعلى حين غرّة، في المكان غير المنتظر، لتفكّ الأزرار، وتأتي بالقميص الحرير، بالفستان المزركش رداءً لساندريلا، المتأهّبة للذهاب إلى حفلة الأمير، وهي تنتعل الكندرة البرّاقة، وتشكّ على صدرها الوردة السحريّة، وهناك تسحر المدعوّات والمدعوّين، فتدبّ الغيرة في قلوب الصبايا الموعودات بالزواج من الشاب الأسمر، فيدبّرن المكيدة التي لا تنطلي على العريس، فيحبسهنّ في الغرفة الضيّقة مع الفئران، عقابًا للكيد والمؤامرة.
ولا يخرج كتابكَ هذا يا شوقي إلى السوق إلى المكتبات إلّا ليفاجئ الكتّاب والشعراء والمطابع ودور النشر والجرائد وأيضًا وسائل التواصل الحديثة، فتنطّ نطًّا كأنّها في عزّ بيروت، في شارع الحمراء، في الأسواق العتيقة، في مختبر المدينة، في ساحة العيد والغواية، حيث الترحاب والترحيب والسؤال والاختلاف والتعدّد والرأي والرأي المضادّ والجواب والنقد – أيًّا يكن النقد – والخمرة المعتّقة والخمرة الفتيّة تتآخيان، ولا زعل ولا عتاب.
“أنت والأنملة تداعبان خصورهنّ”، 139 قصيدة، عدًّا ونقدًا، ولا غلط ولا زعبرة.
القصيدة الواحدة بين صفحةٍ وثلاث صفحات، وهناك بابٌ هو “ياء الليل تنام على الحصيرة”، وهذا كله في 272 صفحة، ولا أعتقد أنّه الديوان الأخير، على رغم ما يُشاع تواضعًا.
فالشاعر صبيٌّ يرتدي الشورت، وينتعل الريح، وهو أزعر، وهو لذيذ، ويتسلّق، ويتعمشق بالهواء، بالغيمة، بالنسيم العليل، ويمتطي بساط الريح، ويؤاخي الأطفال، ويجمعهم في حديقة الأطفال، حديقة الصُوَر والأخيلة والكلمات والهذيانات، ويمضي النهار وأحلام الليل وضحكة الصباح معهم، ويكتب زقزقاتهم، ويطيّر عصافيرهم، ويطرد الطابة والفوتبول إلى الملاعب، وهيهات تعثر على مَن يعيد الطابة إلى الملعب، إلى داخل الزيح، على رغم صفّارة الحكم وذهول الجمهور الكريم.
أحيّي الفتوّة الشعريّة الدائمة، وأحيّيكَ أنتَ، والأنملة، تداعبان خصورهنّ.
والمعنى في قلب الشاعر.