بقلم د. ميشال الشماعي
دخل العراق بوضع جدًّا مأساوي، نفق مظلم قد لا يكون الخروج منه إلا بإعادة الانتخابات. فما حدث في 29/8/2022 يحمل رسالة خطيرة للكتل السياسيّة كافّة مفادها أنّ الاقتتال سيدمّرهم جميعًا وستغرق سفينة الوطن العراقي بالكلّ.
بدا لافتًا ما قام به زعيم التيار الصدري السيّد مقتدى الصدر في خطابه الأخير حيث أمر مناصريه جميعهم بالانسحاب الكامل، وإطاعة أنصار الصدر لزعيمهم كونهم تيار عقائديّ، ولا أحد يستطيع السيطرة عليهم إلا هو، حيث صدرت في اليومين الماضيين الكثير من النداءات المحليّة والدوليّة لتهدئة الأمور ولكن لم يتجاوب أحد مع أيّ من هذه النداءات. والتجاوب كان لزعيمهم فقط.
إلا أنّ هذا لا يعني بأنّ ما حدث ويحدث في الساحة العراقيّة قد أصبح تحت السيطرة. فما حدث بعد العام 2003 من سقوط للنظام السابق حيث استبشر العراقيّون خيرًا لدخولهم في بداية الحياة الديمقراطيّة، اصطدم بالحواجز الطائفيّة والمذهبيّة المستشرية في المجتمع العراقي.
إضافة إلى الصراع القومي والمذهبي داخل الدين الواحد والزعامة والسلطة والإستحصال على الأموال بطرق غير شرعيّة وبشكل كبير، ذلك كلّه أدّى إلى نشوء الميليشيات العسكريّة، حيث قامت كلّ جهة سياسيّة بتكوين ميليشيا مسلّحة لها. فضلاً عن المراحل الأخيرة من داعش إلى تشكيل الحشد الشعبي القوّة العسكريّة التي أصبحت كدولة داخل الدولة نتيجة لاستضعاف الجيش العراقي. إضافة إلى السلاح المتفلّت المنتشر بين أفراد الشعب العراقي كافّة. ما يؤدّي إلى استخدام هذا السلاح عند أيّ نزاع. فهذه الأسباب كلّه ما تزال هي هي منذ العام 2003 لذلك، ستكون النتائج أيضًا.
مع الإشارة إلى أنّ الانتخابات الأخيرة في 10/10/2021 لم تسفر بعد قرابة العشرة أشهر والعجز على تشكيل حكومة. وهذا يشير إلى أنّ هذه الأحزب في أجنداتها وأيديولوجيّاتها لا تملك الإنتماء العراقي بقدر ولائها للزعامات والمرجعيّات الإقليميّة ما حوّل العراق إلى دولة من أكثر الدول الأكثر فسادًا. فما حدث يجب أن يتمّ تصحيحه.
استبعاد شبح الحرب الأهليّة
وفي هذا السياق، لا يعتقد السياسي الكلداني المستقلّ ضياء بطرس “أنّه بالانسحاب الذي أمر بتنفيذه مقتدى الصدر سيسود الهدوء السياسي والاستقرار في العراق، بل هناك اضطرابات أمنية قد تحدث، لأنّ اغلب من يديرون العملية السياسية غير كفوئين ولايهتمون بمعاناة الشعب العراقي بقدر مصالح احزابهم.”
واستبعد بطرس الاقتتال الشيعي –الشيعي بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري لأنّ بنظره ” هؤلاء جميعهم تتحكّم بتوجيههم المرجعيّة الدينيّة الشيعيّة، وكونهم عقائديّين هم حتمًا سيطيعون إرادة مرجعيّاتهم الدينيّة. فهم من المذهب الواحد، بغضّ النظر عن التباين في المرجعيّات الدينيّة.” فبرأيه ” لن تندلع الحرب الأهليّة بل سيكون هنالك عدم استقرار دائم حتّى وجود مخرج للعمليّة السياسيّة بالتوافق بين هذه الأحزاب. لأنّ النظام في العراق هو نظام توافقيّ.”
صحيح أنّ زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر قد دعا إلى حكومة وطنيّة، وحكومة غير طائفيّة، وحكومة أغلبيّة، وإلى عدم توزيع المراكز محصاصتيًّا بين المكوّنات كافّة، فلا يعتقد ضياء “أنّ هذه المتطلّبات تتماشى مع الحالة العراقيّة التي أسّسها الحاكم العسكري الأميركي بريمر في العام 2003 بعد سقوط النظام، حيث تمّ صياغة الدستور على هذا الأمر.” ويرى بطرس أنّ أيّ حلّ للأزمة العراقيّة يجب أن يبدأ بتغيير الدستور لكنّه يلفت إلى أنّ “عمليّة تعديل الدستور هي عمليّة معقّدة لأنّ دستور العراق هو جامد. وهنا تكمن جذور الإشكاليّة العراقيّة.” وفق ما أفاد لموقع جسور.
ويلفت بطرس إلى وجود تضارب في صلاحيّات المحكمة الدستوريّة بين النظام الداخلي وقانون إنشائها حيث أجازت هذه المحكمة لنفسها في نظامها الدّاخلي بإعادة النظر في القرارات التي تتّخذها في حال لم تتماشَ مع واقع الحال الراهن. علما بأنّ القانون الذي أسّسها لا يجيز لها إعادة النّظر بأيّ قرار تصدره. وهذه المسألة برأي بطرس تزيد الطين بلّة. لكن برأيه “لن تنزلق الأمور إلى الحرب الأهليّة إنما الوضع العراقي سيبقى غير مستقرّ إلى أن يتمّ إيجاد بعض الحلول بعيدًا من التدخلات الأجنبيّة بغضّ النظر عن وجودها. ”
أمّا فيما يتعلّق بالتدخلات الإيرانيّة في الساحة العراقيّة فيلفت بطرس بأنّ “موقف الكثير من الأحزاب الوطنيّة وأحزاب الأقليات الدينيّة رافض هذا التدخّل مع الاحترام الكامل للجيرة. “ويرفض ضياء أيّ تدخّل في الشأن السياسي العراقي من أيّ جهة أتى. لأنّ ذلك برأيه “يؤدّي إلى وجود زعامات مواليّة للدول الأجنبيّة التي ستنفّذ أجنداتها على حساب مصلحة العراق.” فالانتماء الوطني يجب أن يكون للعراق ولسيادة العراق لأنّ الدولة التي لا تفرض سيادتها تفقد هيبتها. كما أشار بطرس.
أمّا الدكتور أحمد المساري القيادي في تحالف تقدّم الوطني فيرى بأنّ “ما يحدث اليوم من دخول للمتظاهرين إلى المنطقة الخضراء هو خطير جدًّا.” وهذا بحسب ما يرى المساري تصعيد لما جرى بعد الانتخابات التي لها أكثر من ثمانية أشهر. والدماء لا تستجلب إلا الدماء، لذلك دعا المساري إلى التهدئة والحوار.
الحلّ بالحوار والتفاهم وبإعادة الانتخابات
لعلّ أبرز الإشكاليّات في تكوين السلطة يعود إلى عدم قدرة قوانين الإنتخابات في البلدان على إنتاج قوى سياسيّة فيها أكثريّة متجانسة. ففي 24 كانون الأوّل / ديسمبر 2019 أقرّ مجلس النواب العراقي قانونًا جديدًا لتنظيم الانتخابات البرلمانية في البلاد، بعد دعم المرجع الأعلى للشيعة، علي السيستاني له، وصادق عليه رئيس الجمهورية برهم صالح، في مطلِع تشرين الأوّل/نوفمبر 2020 بـ”تحفّظ. ويقسّم هذا القانون العراق إلى 83 دائرة انتخابية مع عدد مقاعد “كوتا” النساء في مجلس النواب، والذي يُلزم الدستور بحصولهنّ على 25 في المئة من المقاعد النيابية وكوتا للأقليّات الدينيّة أيضًا وعددها 9، من أساس عدد المقاعد البالغ عددها 329 مقعدًا.
وكان الهدف من هذا القانون تخفيف احتكار الأحزاب المشاركة في السلطة للمقاعد النيابية، والسماح بدخول مستقلين وأحزاب صغيرة وحديثة النشأة إلى مجلس النواب. لكن اتّضح أن القانون جاء ليُراعي نفوذ عدد من القوى السياسيّة، ويضمنَ فوزها أيضًاً في الانتخابات المُقبلة، على ما تبيّن بعد الانتخابات الأخيرة.
أمّا الحلّ برأي بطرس وفق آخر المستجدّات فلن يكون إلا بحالة واحدة وهي إعادة الانتخابات النيابيّة العراقيّة بأسرع وقت، “بشرط تعديل القانون وتنظيم عمل المحكمة الإتّحادية لأنّها الجهة الوحيدة المخوّلة بالمصادقة على نتائج الانتخابات.”
وهذه مسألة طبيعيّة تحصل في عدّة دول لتلافي الصدامات بعد تعذّر التوافق والقدرة على تكوين السلطة. وأعاد بطرس سبب المشاكل إلى “كيفيّة تفسير مسألة ” الكتلة الأكبر” التي يجب أن تتولّى تشكيل الحكومة. فهل هي الكتلة التي تحصل على العدد الأكبر من المقاعد في الانتخابات النيابيّة؟ أم هي الكتلة التي تتألّف من تحالفات نيابيّة بعد الانتخابات النيابيّة؟”
فبحسب ما يفيد بطرس لموقع جسور إنّ “قانون الانتخابات العراقي معقّد عمل على تفتيت المحافظات إلى دوائر، ولم تعرف معظم الجماعات السياسيّة كيفيّة التعامل معه. كما سمح هذا القانون بدخول مستقلّين من خارج الأحزاب. فضلاً عن الضرر الذي سبّبه لكوتا الأقليّات (9 مقاعد) حيث استولت عليها جهات بغير أصواتها. ”
ويختم بطرس في هذا السياق حديثه مذكّرًا بأنّه طرح قضيّة تنظيم ترشيح وانتخاب الأقليّات وفق آليّة واضحة عندما كان رئيسًا لهيئة حقوق الإنسان في برلمان إقليم كوردستان في العام 2018 ، لكن لم تلق دعوته أيّ تجاوب.
أمّا المساري فيلفت لموقع جسور بأنّه ” لا يمكن الخروج من هذه الأزمة إلا بالرجوع إلى طاولة الحوار والتفاهم على صيغة ترضي كلّ الشعب، ترضي التيار الصدري وكلّ القوى السياسيّة المنتفضة التي تريد إعادة الانتخابات وحلّ البرلمان ومحاسبة الفاسدين.” وختم المساري حديثه لجسور بأنّه: “لا يمكن ذلك إلا بالعودة إلى طاولة الحوار والتفاهم لأنّ السلاح لا يأتي إلا بالدماء حيث يخسر الكلّ.”
في المحصّلة، دوّامة العنف خطيرة جدًّا، يعرَفُ من أين تبدأ ولكن لا يُعرَف كيف تنتهي. والآراء كلّها تجمع على الدّعوة إلى التهدئة والحوار. فهل سيتجاوب الأفرقاء السياسيّون مع هذه الدعوات؟ أم قد ينزلق العراق، برغم التطمينات، إلى وحول الحرب الأهليّة التي يرفضها العراقيّون حيث يدعون إلى التغيير والتحرّر من كلّ التبعيّات؟