نحو مجلس تأسيسي لتجاوز نظام المحاصصة الطوائفي وبناء دولة المواطنة المدنية

بقلم د. عصام نعمان

أزمة لبنان المزمنة وتداعياتها فكّكت دولته الركيكة، وتسبّبت بانهيار مالي واقتصادي واجتماعي عجزت معه المنظومة الحاكمة طوال عشرين سنة ونيّف عن مواجهة النكبات والكوارث والصدامات، التي عصفت بالبلاد وما زالت تُمعن فيها تدميراً وتقسيماً.

اللبنانيون اليوم على شفير فوضى شاملة، تعمّ كل مناطق البلاد ومناحي الحياة، آن الأوان بعد طول معاناة لاستخلاص عِبَرٍ وحقائق ساطعة لعل أهمها :

سقوط نظام المحاصصة الطوائفي واستحالة ترميمه وتجميله.

انسداد أفق التسويات القابلة للحياة لدى أهل السلطة المتناحرين حتى السديم العظمي.

دقت ساعة الوطنيين اللبنانيين الأحرار الأقوياء في نفوسهم، للمبادرة بلا إبطاء إلى اعتماد نهج جديد فعّال للخروج من الأزمة المزمنة في ضوء حقائق خمسٍ :

*أولاها أن تجاوز النظام الطوائفي سلمياً وديمقراطياً ضرورة عليا، مستمدة من دروس التاريخ وأبرزها، أن العنف في بلدٍ تعددي يستولد دائماً حروباً أهلية.

*ثانيتها أن أهل النظام والسلطة مستمرون في محاولة معالجة مفاعيل الأزمة والانهيار والتحدّيات الماثلة بمقاربات «توافقية» هزيلة وهزلية، ما يستوجب محاذرة خداع النفس بإمكان نجاح السياسيين الفاسدين في إنتاج حلول قابلة للحياة والتنفيذ.

*ثالثتها أن المقاربة الجذرية المطلوبة لتجاوز النظام الطوائفي، وبناء دولة المواطنة المدنية يجب أن تنطلق من أحكام الدستور المعدّل سنة 1990، والمتضمن إصلاحات نصّت عليها وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، التي تحظى وحدها بأوسع توافق وطني.

آن الأوان ليتولّى اللبنانيون بأنفسهم، مهما طال زمن النضال، مسألة بناء دولة مدنية ووطن سيد حر

*رابعتها أن الانتخابات النيابية الأخيرة أفرزت ثلاث حقائق لافتة :

بروز حزب الله كأقوى حزب متماسك وفاعل على مستوى البلاد وفي الإقليم، بالمقارنة مع مجموعة أحزاب سياسية أدنى منه شعبية وفعالية.

بروز حزب التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية كأقوى تكتلين فاعلين بين الأحزاب المتنافسة داخل البيئة المسيحية.

(ج) بروز مجموعة من النواب التغييريين المستقلين الساعين لتحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية.

*خامستها أن القوى الوطنية التقدمية اللاطائفية، ما زالت متفرقة ومتعثرة في بناء جبهة متماسكة في ما بينها لتفعيل تأثيرها ودورها في البلاد وفي تحقيق التغيير والإصلاح.

في ضوء هذه الحقائق الخمس ينهض سؤال: ماذا يتوجب عمله لصوغ مقاربة جذرية فاعلة، من شأنها تكريس تجاوز نظام المحاصصة الطوائفي من جهة، ومن جهة أخرى الإسهام الجدّي في بناء دولة المواطنة المدنية؟ أتقدّم، في هذا السياق، ببعض الأفكار المستقاة من بيئة القوى الوطنية التقدمية اللاطائفية الجادّة، في سبيل تجاوز النظام الطوائفي ومنظومته الحاكمة، وصولاً إلى بناء دولة المواطنة المدنية :

أولاً : ضرورة مبادرة القوى الوطنية التقدمية بلا إبطاء إلى بناء تحالف وطني عريض للتغيير والإصلاح، ببرنامج سياسي اقتصادي اجتماعي، يتضمّن الأولويات الأكثر إلحاحاً وضرورةً في المدى القصير، وأخرى أكثر جذرية للمدى الطويل، على أن يجري التركيز على الأولويات الأكثر إلحاحاً في المرحلة الراهنة.

ثانياً : ضرورة حرص الأحزاب والنقابات والشخصيات القيادية المنضوية في التحالف الوطني للتغيير والإصلاح، على التعاون والعمل مجتمعةً في كل ما يتعلّق بأولويات المرحلة الراهنة، بحيث لا يكون لأيٍّ منها موقف أو نشاط متفرّد في هذا الخصوص، على أن تبقى لكلٍّ منها الحرية في اتخاذ مواقف أو ممارسة أنشطة تتعلق بأهداف تتعدى أولويات المرحلة الراهنة.

ثالثاً : توسيع التحالف الوطني للتغيير والإصلاح، بالتحاور مع القوى السياسية التي تدعو في برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى تحقيق إصلاحات ومطالب تلتقي مع ما يوازيها في برنامج التحالف الوطني.

رابعاً : وجوب تشديد التحالف الوطني للتغيير والإصلاح في حواره مع حزب الله، على ضرورة أن تقترن أولوية المقاومة في برنامجه ومواجهته للكيان الصهيوني العدواني، بأولوية أخرى لا تقل عنها أهميةً وإلحاحاً (خصوصاً بعد تحقيقه ميزة توازن الردع مع العدو) هي النضال الجدّي مع سائر القوى الوطنية الحيّة، في إطار جبهوي أو تعاوني لصوغ وممارسة مقاربة جذرية لتجاوز نظام المحاصصة الطوائفي ومنظومته الحاكمة، سلمياً وديمقراطياً، من دون إهمال العمل في الظروف الصعبة الراهنة مع سائر القوى السياسية لمواجهة استحقاقات سياسية ودستورية، كتأليف حكومة جديدة كاملة الصلاحيات، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الأول/أكتوبر المقبل.

خامساً : ضرورة تعاون التحالف الوطني للتغيير والإصلاح مع حزب الله وحلفائه، لإقرار قانون ديمقراطي للانتخاب، يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته وذلك بمراعاة نص المادة 27 من الدستور (التي ترجّح ضمناً الدائرة الوطنية الواحدة) والمادة 22 (انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف) واعتماد قاعدتي التمثيل النسبي وخفض سن الاقتراع إلى الثامنة عشرة.

سادساً : في حال تعثر إقرار قانون الانتخاب، المشار اليه آنفاً، في مجلس النواب، يُصار إلى اعتماد مقاربة جذرية قوامها انتخاب مجلس تأسيسي من مئة عضو بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، وذلك من قِبَل اللبنانيين جميعاً ومباشرةً، ليتولّى تفعيل أحكام الدستور، بما يؤدي تالياً إلى تجاوز نظام المحاصصة الطوائفي وبناء دولة المواطنة المدنية على أسس حكم القانون، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، التنمية، التنّوع، والعيش المشترك في إطار الوحدة الوطنية.

سابعاً : يُصار بعد إنجاز التدابير الجذرية، المشار إليها آنفاً إلى إجراء انتخابات وفق قانون ديمقراطي وآلية للانتخاب يكون المجلس التأسيسي قد أقرهما. بذلك يتاح للبنانيين لأول مرة منذ تأسيس «دولة لبنان الكبير» سنة 1920 وصولاً إلى الوقت الحاضر انتخاب ممثلين حقيقيين لهم، بعيداً عن الطائفية والتزوير والرشوة والمال السياسي والتدخلات الخارجية.

لا تحول المقاربة الجذرية، سالفة الذكر، دون تمكين التحالف الوطني لقوى التغيير والإصلاح وحلفائه من النضال سلمياً وديمقراطياً داخل ما تبقّى من هياكل النظام الطوائفي المتهاوي، لتحقيق بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية، إنما مع التمسّك باعتزامه دعوة الشعب اللبناني وتمكينه، بوسائله الخاصة وباستقلالٍ عن الحكومة وتحت رقابة مؤسسات أممية وأخرى مختصة بحقوق الإنسان، من انتخاب أعضاء مجلس تأسيسي يتولّى تحقيق إصلاحات سياسية جوهرية منصوص عليها في أحكام الدستور المعدّل، والانتقال بالبلاد تالياً من حال الصراع الأهلي الطائفي المرهق إلى حال السلام والعيش المشترك في ظل حكم القانون والديمقراطية.

آن الأوان ليتولّى اللبنانيون بأنفسهم، مهما طال زمن النضال، مسألة بناء دولة مدنية ووطن سيد حر.

اخترنا لك