بقلم محمد الجنون
ما شهده يوم أمس الجمعة من تطوّرات “مصرفيّة” ليس عادياً أبداً وترجمتُه لا يمكن اختصارها بأي تحليلٍ عادي أو كلماتٍ عابرة. حقاً، بات مشهد الاقتحامات حديث البلد بسرعة البرق، ليكشف في الوقت نفسه عن مُعضلةٍ كبيرةٍ باتت تُهيمن على واقع الناس وسط انهيار الاقتصاد وتردّي الأوضاع المعيشية.
بموازاة مشهد “استرداد الحقوق”، طغت نظريات المُؤامرة التي رافقت مشهد اقتحام المصارف. هنا، الأمر اتخذ طابعاً غير عادي أبداً، أذ أضحت منصات مواقع التواصل مكاناً لتفريغ رسائل مُفخخة “تخوينية” للمودعين الذين اقتحموا المصارف بغية الحصول على أموالهم و “جنى عمرهم”.
عملياً، فإنّ أقل ما قيل يوم أمس يشير إلى أن المودعين نفذوا فعلتهم بهدفِ شدّ الأنظار إليهم وجعل الرّأي العام ينظرُ إليهم على أنّهم “أبطال هذا الزّمن”.
كذلك، قيل أن ما جرى قد يكون مخططاً له، بينما رأت آراء أخرى أن ما حصل طبيعي وبديهي في ظل أزمة خنقت أموال المودعين وجعلتها غير معروفة المصير.
حتماً، فإن ضبابية الآراء وانقسامها كان كبيراً، والأمر هذا يكشف عن تبدّل في المزاج العام إزاء مقاربة أي تحرك قد يكون عفوياً من أجل حق تكفله القوانين. بشكل أو بآخر، قد يكون من البديهي التضامن مع المودعين لأنهم لا يدخلون المصارف من أجل السرقة، بل في سبيل استرداد أموالهم، الا أنه في المقابل قد يرى البعض في ما حصل، مُخططاً مدروساً لزيادة انهيار العملة أو التمهيد لخضات أمنية تساهم في إرساء أوضاع متوترة.
بديهياً، يدرك المودعون أنّ أي مخاطرة في عملية اقتحام قد تكلفهم حياتهم ومصيرهم، وعندها ما من جهة قد تعوض الخسارة في الأرواح. ولهذا، فإن نقطة المغامرة قد تكون قائمة بقوة عندما يتعلق الأمر بحاجة ماسة إلى الأموال مثلما حصل مع الناشطة سالي حافظ أو المودع باسم الشيخ حسين.
بشأن هذين المودعين، كانت الحاجة إلى الأموال من أجل سبل علاجية، بينما كان المودعون الآخرون بحاجة لأموالهم من أجل شؤون أخرى قد لا تقل أهمية عن العلاج.
وحقاً، تتجلى صرخة الجُوع التي تهزّ الضمائر، بينما لا يُمكن لأي جهةٍ أن تلوم مُودعاً بات يئنّ تحت وطأة الإنهيار. أما ما لا يمكن تخيّله أبداً هو صرخة مواطنٍ أراد أمواله ليعيش أبناؤه بكرامتهم في ذلّ الزمن وغدرِه.. هُنا تنتهي الحكاية كلها أمام حياة الأطفال ومستقبلهم، وتندثرُ كلّ الاتهامات لأشخاصٍ لا يُطالبون سوى بحقّهم وتعب سنينهم التي واجهوا فيها المُرّ والشقاء.
بمعزل عن السبب الذي تُراد لأجله الأموال، يبقى ثاتباً هو أن الايداعات هو حقّ لا يجب التنازل عنه، وبالتالي فإن الحصول على تلك الأموال يجب ألا يكون مشروطاً بسبب مهما كان حجمه. كل هذا تكفله الدساتير والقوانين، ولا يُمكن لأي جهةٍ أن تمنع شخصاً من الحصول على حقّه. ولأجل كل ذلك، تكونُ التضحية، وهذا ما جرى حقاً وبكلّ قوة.
ورغم كل ذلك، تبرز مشكلة كبيرة في توجهات الرأي العام خلال مقاربة حوادث مماثلة. فمن جهة هناك المتضامن لأنه يعي تماماً صعوبة الحصول على الوديعة المحتجزة داخل المصرف. أما من جهة أخرى، فهناك الأشخاص الذين يتحدثون من برجهم العاجي لانتقاد ما يحصل من دون استيضاح حقيقة الأمور. عند هذه النقطة، تكمن المعضلة الكبرى لأن التخوين لأي تحرك يبدأ فوراً من دون الوقوف عند أسبابه وأحقيته.
ولهذا، باتت التحركات الشعبية غير ناجحة ومن دون فائدة، إذ تبين أن المواطنين باتوا يرون غاية غير جيدة في كل اعتصام أو تحرك مهما كان عفوياً أو مُحقاً.
في الواقع، يُمكن جزم، وبـ”قلبٍ قوي” أن أكثر المنظرين الذين “امتعضوا” من مشهد اقتحام المصارف، هم أنفسهم واجهوا إشكالاتٍ معها بسبب اجراءات اعتبروها تعسّفية. كذلك، كان المنظرون أنفسهم ينوون افتعال إشكالٍ مع موظفي المصارف في أوقات سابقة لأنهم لا يحصلون على ما يريدونه من رواتبهم! مع هذا، حينما تقرأ كلام بعض النظريات، سيتبادر إلى ذهنك أمرٌ واحد وهو أنّ الذين يُطلقون ما يريدون من كلام، يعيشون في أحسن حال.. لا أزمة لديهم، وبرأيهم الحصول على الوديعة بهذا الأسلوب هو عملٌ عدائي، وأنّ ما يجري هو خطة مبرمجة لتطيير الإيداعات.
إلا أن الحقيقة في مكان آخر، لأن أغلب المُنظرين والمستائين من الوضع، استفادوا من أي إجراءٍ يمكن من خلاله الحصول على أموال إضافية من المصارف.. هؤلاء أنفسهم هم أيضاً من الذين ينتظرون ارتفاع الدولار لتحصيل أرباحٍ إضافية من دولاراتٍ بحوزتهم.. المنظرون هؤلاء هم الذين لا يتحركون رفضاً لكل الأوضاع.
من دون أي منازع، فإنّ ما جرى أمس الجمعة يحتاجُ إلى تحقيق جدّي وعملي من قبل أجهزة الدولة، لأن القانون قائم والجميع يخضع لسلطتهِ. وُحكماً، فإنه من الطبيعي أن يلجأ القضاءُ للبحث في خلفيات ما حصل، ولمعرفة ما إذا كان هناك تنسيق بين المودعين الذين أقدموا على اقتحام المصارف.
ولهذا الغرض، أصدر النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، أمس الجمعة، استنابة قضائية لكل الأجهزة الأمنية بملاحقة الأعمال الجرمية المرتكبة داخل فروع عدة مصارف في لبنان والعمل على توقيف المرتكبين واحالتهم لديه، والعمل على كشف مدى ارتباطها ببعضها وتوقيف المحرضين.
على هذا الخط والتحرك القضائي، يطرأ رأيٌ آخر يشير إلى أن المودعين “تشجعوا” للإقدام على المطالبة بودائعهم.. وما يمكن القول هو أنه ليس ضرورياً أن يكون هناك أي تنسيق بين أي أحد، بل إن مبادرة واحدة من شخصٍ تجعل الآخرين يبادرون.. ضمنياً، فان هذه القاعدة موجودة اجتماعياً في حين أن الصورة النمطية عن عدم تطبيق المحاسبة والتوقيف والسجن اثر اقتحام المصارف هو أحد الأسباب التي قد تدفع بأي شخص للاقدام على الخطوة نفسها.
وبمعنى آخر، فان ما يجري على صعيد الاقتحامات والتعاطي الأمني معها قد يدفع بالآخرين للتجرؤ على اتخاذ خطوة يقال عنها إنها الأسرع للحصول على الأموال وضمانها.
في خلاصة القول، يمكن اعتبار ما يجري مقدمة لحراك أكبر قد يحصل في المناطق، لكن الأساس دائماً يرتبط بالعنصر المُبادر. هكذا حصل مع المودعين، فالأمر يرتبط بحق مالي ملموس وهذا الأمر خير دافع للتحرك.. ومثل الكهرباء، حينما يجد المواطنون نتيجة لتحرك باتجاه أي معمل كهربائي، يبادر آخرون للخطوة نفسها في منطقتهم، وهكذا دواليك!