بقلم زينب حاوي – الأخبار
بات مشهداً مألوفاً في بيروت أن تفرغ شقق وعقارات من قاطنيها، ويُطرد سكانها في الشارع مع ما تبقى لهم من أثاث وذكريات. شيئاً فشيئاً تكبر دائرة الإخلاءات في العاصمة ومحيطها، مع اشتداد الأزمة الاقتصادية ودولرة السلع، وسط غياب لأيّ خطة رسمية مساندة. يُترك الناس لملاقاة مصائرهم وحيدين في الشارع، بعد تجذّرهم لسنوات طوال في محيط عايشوه واختزن حيواتهم وذكرياتهم وأفراحهم ومآسيهم. مشهد يعيدنا إلى السنوات التي تلت انتهاء الحرب، واقتلاع البيروتيين من مدينتهم، والسطو على ما تبقى من العاصمة من نسيج اجتماعي وعمراني وثقافي، لصالح سياسة الأبراج والشقق الفارغة! عُزل قلب العاصمة عن محيطه، واقتلعت معه حيوات لأناس تجذّروا في بيروت، فتشتّت السكان وجيء بآخرين من الطبقات المترفة.
ومع التظاهرات التي انطلقت في تشرين الأول 2019، وما تلاها من أحداث، تحوّلت تلك البقعة إلى مساحة ميتة بعد إقفال العدد الأكبر من المحال التجارية، وخلوّها من روّادها «الوافدين». وضاعف تفجير المرفأ قبل عامين، موجة التهجير بفعل تضرّر المناطق المحيطة، والجشع العقاري، واستغلال القوانين التي لا تحمي السكان.
اليوم ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية الخانقة، تعاد كرّة موجة التهجير من باب دولرة الإيجارات واستغلال الطبقات المهمّشة من اللبنانيين والأجانب لتضحي المشهدية أكثر مأساوية لدى التغلغل أكثر في أحياء بيروت، وحتى المناطق المحيطة، الأمر الذي ينذر بتغيّر في النسيج الاجتماعي والعمراني، ويضعنا مجدداً أمام إشكاليات قانونية تبيح لأصحاب العقارات هدم ما تبقى من بيروت، مقابل ازدياد هشاشة السكان وزعزعة أوضاعهم. فكيف بدت مشهدية التهجير في بيروت وبعض المناطق وأين توزعت؟ وما الشرائح الاجتماعية والجنسيات التي طالتها وزادت أوضاعها صعوبة وهشاشة؟
بيروت أولاً
في تقرير لـ«مرصد السكن» في «استديو أشغال عامة»، امتدّ على عشرة أشهر (من أيار 2021 إلى شباط 2022)، يظهر أن أكثر البلاغات عن التعرّض للتهجير وردت من قبل لبنانيين (44%)، وسوريين (35%)، فيما حلّت بيروت ومحيطها: برج حمود، والنبعة، والدورة، والمدوّر، والكرنتينا، والرميل، ضمن المناطق التي شملت هذه البلاغات. ومعلوم أن هذه المناطق لطالما ارتبطت بالنزوح من الريف إلى المدينة، وبإيوائها للنازحين والعمّال الأجانب وذوي الدخل المحدود. تلاها رأس بيروت والمزرعة، وفرن الشباك، والبوشرية، وبشامون، وصيدا، وطرابلس، والحازمية، والدكوانة… وقُدّمت هذه البلاغات على خلفية النزاع على عقود شفهية (68.8%)، ومسجّلة (22.9%)، وقديمة (8.3%)، وشملت كذلك غالبية سكانية من النساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة، وكبار السن. وتبيّن من خلال الدراسة أن أغلب هؤلاء لا يلجؤون إلى المخافر لإيداع الشكاوى خوفاً من تعرّضهم للتمييز. كما لفتت الدراسة إلى تأثير وجود الأطفال على النساء اللاتي فضّلن، في حالة التهديد بالإخلاء، عدم المواجهة والركون إلى ظلم المالك.
وفي تقرير ثان صدر عن المرصد شمل أشهر آذار ونيسان وأيار 2022، تبيّن أيضاً أن أغلب طلبات الإخلاءات غير قانونية، وفرضت قبل مرور ثلاث سنوات على عقد الإيجار، فيما بقيت بيروت تسجل النسبة الأعلى من البلاغات في أحياء المدوّر، والمزرعة، والرميل، وبرج حمود وغيرها، والتي تؤوي ذوي الدخل المحدود والمقيمين من غير اللبنانيين. كما سجّلت طرابلس نسبة عالية من الإخلاءات (12.3%)، بسبب تردّي أوضاع السكن داخلها، وتدهور البيئة العمرانية بعد انهيار عدد من المباني على رؤوس قاطنيها. في المحصلة، يرصد التقرير أكثر من 66% من البلاغات يشعر أصحابها بخطر فقدان مساكنهم، وبأعباء أكلاف الإيجارات (خاصة بعد فرض قيمة الإيجارات بالدولار)، إذ لجأ البعض للاستدانة لتسديد المبلغ المطلوب، وتبيّن أيضاً أن ثلث دخل هؤلاء ينفق على مصاريف السكن. في وقت غابت فيه مقومات العيش لديهم، إذ إن31% من هؤلاء ليس لديهم إمكانية الوصول إلى الكهرباء -إن وجدت- ولا إلى اشتراك المولدات أو حتى امتلاك مولد خاص، إضافة إلى غياب توفر مصادر الطاقة للطهي والتدفئة والإنارة.
ربع المساكن شاغرة
«تداعي الحيوات – أحوال السكن المجهولة في بيروت»، عنوان المنصة الإلكترونية التفاعلية، التي أطلقها أخيراً «مختبر المدن» في «الجامعة الأميركية في بيروت»، والتي سعت في نسختها الإنكليزية إلى إبراز أنماط العوز والتهجير والإخلاء في بيروت، عبر تحليل بيانات ونقل مرويات عن السكان، والهدف منها التركيز على القوى المسبّبة للفقر، لا تظهير الفقر كمفهوم للعوز لدى الأفراد.
تبدأ القصة، كما تلفت منسّقة الأبحاث في «مختبر المدن»، سهى منيمنة في حديث لـ«الأخبار»، من سياسات الدولة، التي حوّلت الأرض إلى سلعة وإلى مساحة للاستثمار فقدت قيمتها الاجتماعية. ساهم في ذلك القوانين الوضعية التي حفزّت التطوير العقاري، وأنتجت شغوراً عالياً في العقارات، لصالح أبراج ومبان شيّدت على أنقاض أبنية وشقق هدمت، أو أخرى تنتظر إخلاء السكان الأصليين ويتمّ تأجيرها (إلى حين هدمها) إلى العمّال الأجانب من دون عقود مسجلة.
أكثر من 150 مبنى مهدّداً بالإخلاء في بيروت، وسكانها مهدّدون بالتهجير جراء سياسات التطوير العقاري. رقم أحصته أخيراً هذه المنصة، يضاف إليه تداعي ثلث مباني العاصمة جراء انفجار الرابع من آب، وانهيار أجزاء إنشائية منها، إلى جانب العديد من المباني التي يعجز سكانها عن ترميمها أو إصلاحها، وتحسين شروط العيش فيها، جرّاء وقوعها ضمن استملاكات الدولة، التي تنتظر الهدم وتشييد عقارات مكانها، الأمر الذي يزيد حالات القلق وغياب الاستقرار لدى هؤلاء. إضافة إلى العمل على تظهير قانون الإيجارات الشائك على أنه نزاع خاص وشخصي بين المستأجر وبين المالك، من دون تحويل الأمر إلى قضية شأن عام، تطال شرائح واسعة من اللبنانيين والمقيمين، مع بقاء ربع مساكن بيروت شاغرة.